الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

التراجع في بابنوسة وهجليج: زلزال ميداني يفتح أبوابًا سياسية واستراتيجية جديدة للسودان!؟السفير.د.معاوية التوم

السفير د. معاوية التوم

مقدمة (المشهد الافتتاحي)
علاوة على انسحاب/سقوط الفاشر في ايدي المتمردين بدعم خارجي في سياق الحرب الاقليمية بالوكالة قبل شهر ونصف وما خلفه من تبعات. شهدت الساحة العسكرية السودانية خلال الأيام الماضية حادثتين متصلتين لكن محورية في طبيعتهما: انسحاب قوات الجيش من بابنوسة وتلا ذلك انسحاب/سقوط هجليج، الحقل النفطي الأهم في غرب/جنوب كردفان. تبدو هذه التطورات، التي رافقها إعلان مليشيا الدعم السريع عن سيطرتها على هجليج، أكثر من تحوّل تكتيكي عابر؛ إنها إشارة إلى بدء مرحلة جديدة في الحرب، يتداخل فيها البعد العسكري مع ضغوط اقتصادية وسياسية إقليمية وذات طبيعة متصلة بدول الجوار والشبكات المرتزقة العابرة للحدود .
لِمَ هذان الموقعان مهمّان حقًا؟
بابنوسة: عقدة لوجستية تربط حلقات النزاع في غرب كردفان ودارفور، وممر لتحرّكات الوحدات البرية والتموين. سقوطها أو التراجع منها يسهّل قطع خطوط إمداد الجيش وتشكيل جبهات ضغط على مواقع أخرى.
هجليج: أكثر حساسية؛ فهو ليس مجرد حقل نفط بل ممر تصدير حيوي عبر خط الأنابيب إلى بورتسودان وتيار دخل متداخل مع اقتصاد جنوب السودان. السيطرة على هجليج تعني التحكم في شريان اقتصادي مهم، وإمكانية الابتزاز السياسي والاقتصادي في آن واحد. على نحو ما يجري في تجربتي ليبيا واليمن.
التداعيات العسكرية — لماذا الانسحاب ليس «هزيمة» بالمعنى البسيط؟
في سياق الحرب الماضية يمكن ان تفقد موقعا لكنك لا تفقد المعركة خاصة لدى الجيوش النظامية المحترفة. فالانسحاب الذي رصدته تقارير رسمية وتحليلية ينسجم مع نمط «إعادة التموضع التكتيكي» لتفادي خسائر كبيرة في أصول حساسة أو للاستعداد لهجوم مضاد في زمن ومكان آخر. مصادر عسكرية تتحدث عن ترحيل وحدات ومعدات إلى محاور قريبة أو نحو النيل الأبيض استعداداً لإعادة تنظيم الصفوف. لكن من جهة أخرى، فقد خلق هذا الفراغ مجالاً سريعاً لقوى مدعومة خارجياً لملء الفراغ وإعادة تشكيل ميزان القوى على الأرض بكل ما يحمل من دلالة ميدانية ومعنوية وشعبية.
في السياق التكتيكي، سقوط هجليج يحرر اليد أمام القوّة التي استولت عليه للانتشار وتأمين تحركات طويلة المدى، بينما يضع الجيش أمام معضلة حماية البنى التحتية الحيوية من دون التعرض لاستهلاك قياداته الميدانية في معارك استنزاف بلا طائل نتقاسم اثره مع جنوب السودان.
الأبعاد الاقتصادية والسياسية — من يربح ومن يخسر؟
اقتصادياً، توقّف الضخ أو تعرّض خطوط أنابيب النفط لتعطّل يمثل ضربة مزدوجة: خسارة مباشرة لعائدات الترانزيت والضريبة، وتأثير ثانوي على علاقات السودان الإقليمية مع جوبا التي تعتمد على خطوط التصدير عبر الأراضي السودانية. سياسات السيطرة على موارد مثل هجليج تتحوّل بسرعة إلى أدوات ضغط تفاوضي أو عقابي على صانعي القرار في الخرطوم. في سياق تقارب التمرد مع بعض قيادات الجنوب ونفوذ الإمارات، والوجود الصيني.
سياسياً، هذا التحوّل يعزّز رواية مليشيا الدعم السريع بكونه فاعلاً قادراً على تحقيق مكاسب استراتيجية كبيرة، ما يزيد من رصيده التفاوضي أمام الوسطاء الإقليميين والدوليين. بالمقابل، يضع الجيش والحكومة في موقع دفاعي يسهّل على أطراف إقليمية ومالية طرح «حلول» و«ترتيبات» قد لا تكون متوازنة في سياق الضغوط على البلاد. وهنا تاتي قدرة الجيش على الالتفاف وسرعة التحرير لابطال فحوى هذا التقدم في مناطق ذات حساسية بالغة.
دور الفاعلين الخارجيين: دعم، توظيف، ومصالح
المشهد لا يفسّر نفسه سوى من خلال اعتراف بتغلغل مصالح خارجية وإقليمية. تقارير صحفية ومحلّلون أشاروا إلى تقاطعات مصالح لدول إقليمية في السلاح والمدد اللوجستي المتطور والوقوف السياسي، وأخرى ترى في تعطيل صادرات النفط وسيلة للضغط على الخرطوم وجوبا على حدّ سواء. الدعم الاستخباري واللوجستي يُسرّع استغلال الفراغات الميدانية، وهو ما يبدو واضحًا في سرعة استيلاء القوى المسلحة على مواقع استراتيجية متتالية.
سيناريوهات قادمة (ثلاث محتملات)
1. الاستقرار المؤقت لصالح المحتلّين: يحتفظ التمرد بهجليج وببابنوسة لفترة كافية ليستخدمهما كورقة ضغط تفاوضي تُبقي الشارع والوسطاء أمام «وقائع» جديدة. هذا السيناريو يعزز موقفهم في أي محادثات قادمة او محتملة، يتوجب إبطاله.
2. هجوم مضاد منظم للجيش: الجيش قد يُعيد ترتيب قواه وتنفيذ هجوم مضاد لاسترجاع العقد اللوجستية والحقول النفطية، لكن ذلك يتطلب موارد لوجستية وتحالفات داخلية وإقليمية ليست متاحة بالقدر الكافي الآن بحسب بعض الروايات. لكنها ممكنها ولازمة بصفة عاجلة تقطع على التمرد سبل الاستقرار
3. طريق تفاوضي تحت مظلة إقليمية: الضغوط الاقتصادية واهتزاز شريان التصدير قد يدفع الوسطاء الإقليميين والدوليين إلى تسريع مسارات وساطة تقود إلى هدنة وتوزيع نفوذ حول إدارة الموارد، ما يعني فصل الملف العسكري عن الاقتصادي بشكل محدود، او فرض ارادة كما تسعي الرباعية عبر ما تقترحه من هدنة. او التفاف مبكر على المبادرة السعودية الأمريكية.وهذا ما يتوجب على البلاد رفضه بقوة مقارنة الي الكلفة التي رتبتها الحرب على البلاد.
ماذا يعني هذا للمواطن السوداني وللمشهد السياسي الداخلي؟
في المدى القصير، زيادة احتمالات انقطاع خدمات وانتشار نزوح محلي وارتفاع أسعار بسبب خسارة عائدات. سياسياً، قد يُسارع المشهد إلى إضعاف ثقة الجمهور في قدرة الدولة على حماية مواردها ما يفتح الباب أمام قابلية تقبل حلول إقليمية مرهونة بمصالح خارجية. أمنياً، وقد تتفجّر جبهات جديدة أو يتوسّع نطاق العنف انطلاقًا من نقاط السيطرة الجديدة، او ارتدادات المشهد غير المحسوبة . وما قد تحدثه هذه التراجعات منذ سبتمبر من هزة نفسية معنوية ومخاوف تريدها الأطراف الداعمة للتمرد، يجب التحوط لأشراطها.
وقفة تأملية — لماذا ينبغي قراءة هذا الحدث كبداية لا نهاية
الانسحاب من بابنوسة وسقوط هجليج لا يمثلان مجرد تحرّك عسكري محلي؛ إنهما انعكاس لتحوّل استراتيجي أعمّ في الحرب السودانية: من نزاع او صراع متمدد يركّز على موارد الدولة وممرّاتها الحيوية، ويجعل من هذه الموارد رأس الحربة في المعارك والتفاوض. تلك الموارد، بدورها، جذبت فاعلين إقليميين يحاولون تحويل نتائج الميدان إلى مكاسب سياسية طويلة الأمد. قراءة التطورات من هذه الزاوية تضعنا أمام حقيقة مفادها: لا تفاوض مخبريًّا أو سياسياً بمعزل عن المعادلات الاقتصادية والمناطقية التي أعادت تشكيل الخريطة السودانية، يتوجب ازاءها اخذ العبر والدروس وعدم استسهال الحلول الجمعية وتعزيز وحدة اللحمة الداخلية وتماسكها لمخاطبة خطط النصر والحماية.
الخاتمة
المسار المرجّح ميدانيا أمام الجيش كبير لاستعادة زمام المبادرة، وهو لا يقوم على المواجهة المباشرة وحدها، بل على إعادة بناء الهندسة الاستراتيجية للحرب عبر ثلاث خطوات تكاملية:
1. تحويل مسار الحرب من الدفاع إلى المبادأة المنضبطة
عبر إعادة التموضع في محاور ذات قيمة لوجستية أعلى، وتكثيف عمليات قطع خطوط الإمداد القادمة من الحدود الغربية، بما يحرم قوات التمرد من الوقود والسلاح والذخائر التي تمكّنها من المناورة السريعة خاصة على الجبهات الحدودية (ليبيا، تشاد، جنوب السودان و اثيوبيا).
2. استعادة العقد اللوجستية بدل المدن
التركيز على استرجاع الممرات لا المساحات مثل (الأبيض–بابنوسة–الفولة) و(هجيليج–بليلة–كوستي)، وهي شرايين الحركة التي بغيابها لا تستطيع قوات التمرد تثبيت مكاسبها أو تعميق انتشارها.
3. دمج القدرة الوطنية مع الحاضنة المحلية
عبر تعبئة المجتمعات المتضررة من الحرب وتنظيم خطوط الدفاع الأهلي، واستدامة النفرة وإعادة الثقة في سلطة الدولة وقدراتها النوعية الكامنة، بما يجعل ظهر الجيش محميًا ويغلق البيئة التي يتسلل عبرها التمرد وتعلي من الروح القتالية.
بهذه المعادلة — قطع الإمداد، استعادة العقد، وتمكين المجتمعات — يستطيع الجيش إعادة تثبيت ميزان القوى ومنع تمدد التمرد، وفتح الطريق نحو مرحلة تفرض فيها الدولة شروطها في الميدان وفي السياسة على حد سواء. دون الرضوخ أو القبول باي شروط للمضي في هدنة أو تفاوض في ظل الأوضاع القائمة والتقديرات التي رمى اليها التمرد وداعميه الكثر حتى استعادة الامرة والسيطرة على المناطق موضع الاحداث.
—————-
١٠ ديسمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!