إمام محمد إمام
في غياهب ظلمات السودان هذه الأيام، ينسل من بين بني السودان، العلماء الأخيار، والجهابذة الأحبار، ونحن في غفلة عن انسلالهم من الحياة الدنيا الفانية، دون إخطارٍ ووداعٍ، إلى علالي دنياهم الباقية، فنفجع من هول الفواجع، وتتكاثر علينا الابتلاءات، ولولا اصطبارنا عليها، إيماناً ويقيناً، كِدنا أن نذهب إلى أنها بلاءٌ وليس ابتلاءٌ، وبينهما فارقٌ إيماني كبير، وسرعان ما نلجأ إلى قول الله تعالى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”، وتطمئن قلوبنا بذكر الله، أليس هو القائل: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”. فقد غيب الموت، الذي هو أقوى ابتلاءات الله لعبده، ويصح القول إنها مصيبة، لأنها ابتلاء بالأنفس، علم من أعلام السودان وحبر من أحباره، وسماحة السودان، ومفسر القرآن، وفصيح البيان، ألا هو أستاذي العلامة الشيخ البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم، في يوم الأحد 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، في أم درمان، المدينة التي فرّ الناس منها، كأنهم حُمر مستنفرة فرت من قسورة، إلا مَنْ رحم ربي، وقسورةُ زماننا هذا، الجنجويد، وما أدراك ما الجنجويد!
فالموتُ مدركنا، مهما تعددت الأسباب، وتباينت المسببات، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، أو ظللنا مرابطين داخل السودان!تأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. وتصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل
ولم يجد الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى، سوي تذكر الموت في ثنايا التماسه للعفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
إذا كان قاضي القضاة شَمْسْ اَلدِّينْ أَبُو اَلْعَبَّاسْ أَحْمَدْ بْنْ مُحَمَّدْ بْنْ إِبْرَاهِيمْ بْنْ أَبِي بَكْرْ بْنْ خِلِّكَانْ،مؤرخ وقاض وأديب يعد من أعلام مدينة دمشق، وهو صاحب كتاب «وَفَيَاتُ اَلْأَعْيَانِ وَأَنْبَاءِ أَبْنَاءِ اَلزَّمَانِ» وهو أشهر كتب التراجم العربية، ومن أحسنها ضبطاً وإحكاماً، وتميز الكتاب على سائر كتب التراجم بعناية مؤلفه. وبلغ من عنايته بذلك أنه كان يُسقط الترجمة كلها، إذا لم يوفق في الوقوف على سنة الوفاة متى تيسر لذلك بقوله عن بعض التراجم “ولم أظفر بوفاته حتى أفرد له ترجمة”. فهذا يدل على أهمية ترجمة الوفيات، لا سيما وفيات الأعيان.
لقى كتاب وفيات الأعيان من الذيوع لدي العلماء والأدباء والعناية منهم ما استدعى مزيد عناية به، فتتبعوه فيما غفل عنه من تراجم الفضلاء وأهل الشهرة، فألف ابن شاكر الكتبي (توفي 764 هـ / 1363 م) «فوات الوفيات والذيل عليها»، وألف على ما يقترب من نسقه صلاح الدين الصفدي موسوعته الضخمة «الوافي في الوفيات» ومعاصرهما شمس الدين الذهبي كتابه «سِيَر أعلام النبلاء»، ثم من بعده ابن العماد الحنبلي في كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» مرتباً على سنوات الوفاة، وقد ضمنه موجزاً واختصر فيه غيره من كتب التاريخ والتراجم.
وجزى الله خيراً، أخاً عزيزاً، وصديقاً حميماً، -عمداً لا أُسميه- دلني على كتابٍ مهمٍ في التراجم باللغة الإنجليزية، اقتناه في إحدى سفرياته إلى لندن، ولكنه رفض البتة أن يُعيرني ذاكم الكتاب! وانصافاً له أنني استعرتُ منه بعض الكتب، ولم أُعيدها له. وفاجأته يوماً بالمقولة الشهيرة “أحمقان.. مُعير ُ كتابٍ ومُعيده”، فظنها تذاكٍ مني عليه، فأوقف إعارتي كتبه من يومها! ولكن جزى الله خيراً، ابنتي الدكتورة أمل إمام، عندما أخبرتها بما فعله معي الصديق الحميم، وتعلم أنني من كُتاب وفيات الأعيان، سارعت إلى شرائه ليّ من أمازون. بالفعل أفادني كثيراً في كتابة الوفيات، منها:
Make a list of life events and notable achievements that you will include in the biographical section. You should conclude your obituary by mentioning the deceased’s legacy. Identify whom or what they are leaving behind.
في رأييّ الخاص، أن رثاء أستاذي الراحل البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم يجب أن يكون ترجمة توثيقية لأعماله وإنجازاته الكُثر، إذ أنه أحد كبار علماء السودان، علماً وأخلاقاً وإبداعاً، وأستاذاً نحريراً من أعلام اللغة العربية، ومعلماً ضليعاً في علوم القرآن وتفسيره، وفقيهاً بارزاً، وشاعراً مجيداً، وخطيباً مفوهاً، ومع كل ذلكم، كان أستاذنا يمتع بذاكرةٍ حافظةٍ، وصاحب فصاحةٍ وبيانٍ.
وُلد البروفسور الراحل الحبر يُوسُف نور الدائم في الأول من أبريل (نيسان) 1940، بقرية السروراب في شمال أم درمان. وكانت مراحله التعليمية الثلاث في أم درمان، الأولية في حي العرب والوسطى بالأميرية أم درمان، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية بالمدينة نفسها. وحصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من كلية الآداب في جامعة الخرطوم بمرتبة الشرف الأولى في عام 1965. وابتعثته جامعة الخرطوم إلى بريطانيا، حيث حصل على درجة الدكتوراه من قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أدنبرا باسكتلندا في عام 1969. وكانت أطروحته العلميه عن الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب “جامع البيان عن تأويل آي القرآن”.
التحق البروفسور الراحل الحبر يُوسُف نور الدائم، فور عودته من البعثة الدراسية بالجامعة، حيثُ تدرج في الألقاب العلمية بجامعة الخرطوم من محاضر إلى بروفسور في قسم اللغة العربية بكلية الآداب. وكان عضواً في المجامع اللغوية والفقهية، وعضواً دائماً في مجلس أمناء الزكاة. وكان نشطاً في إلقاء المحاضرات العامة، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، محلياً وخارجياً، وتقديم بعض البرامج الإذاعية، منها برنامج “سحر البيان” في الإذاعة السودانية، وبرنامج “أحسن الحديث” في قناة الشروق السودانية. وله ديوان شعر مطبوع بعنوان “أنفاس القريض” وسلسلة كتيبات بعنوان “من نور القرآن”، لخص فيها ما قدمه في برنامج “أحسن الحديث”.
عرفتُ أستاذي البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم منذ بواكير عهدي الطالبي بجامعة الخرطوم، وكان من نعيم حظي أنه درسني معظم سنواتي الخمس في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، وتوثقت علائقي به إلى الدرجة التي كنتُ احتفظ بنسخة من مفتاح مكتبه للمذاكرة ليلاً، على الرغم من أنني كنتُ احتفظ بنسخ ثلاثة مكاتب لأساتذتي الأجلاء البروفسور العلامة عبد الله الطيب والدكتورة زكية عوض ساتي والدكتور صلاح الدين المليك، إضافة إلى نسخة من مفتاح مكتبة كلية الآداب -رحم الله تعالى الأخ الزاكي أمين المكتبة – حياً أو ميتاً – لأن الرحمة، أجمع أهل العلم أنها تجوز على الأموات والأحياء. ولما كنتُ، وأنا طالب بالجامعة، أقدم برنامجاً إذاعياً يومياً بعنوان “آفاق” في الإذاعة السودانية، وبرنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً بعنوان “شذرات من الثقافة” مع البروفسور عبد الله الطيب -يرحمه الله-، إضافةً إلى عملي في صحيفة “الصحافة”، كل هذا يسر ليّ التواصل المستمر مع أساتذتي. وأذكر هنا، واقعتين، لتأكيد قُربي واستمرار علاقتي بأستاذي الراحل البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم حتى بعد تخرجي، كنا مجموعة من الرسلاء الصحافيين والإعلاميين السودانيين، يعملون داخل السودان وخارجه، ومعنا البروفسور الراحل الحبر، التقينا في مؤتمر بالسعودية، ومن بينهم كان أحد رسلائي من دفعتي في الجامعة -وعمداً لا أُسميه، دفعاً للحرج- جادلني في علاقتي بالبروفسور الحبر، فحسم رسلائي المجادلة، بأنهم سيسألون البروفسور الحبر عمن يعرف من طلابه أنا أم ذاكم المجادل، وعندما حضر إلينا، بادروه بالسؤال، فكانت اجابته القاطعة، المؤكدة لقوة العلاقة بيني وبينه، قال: لهم إمام طبعاً. أما الواقعة الثانية، بعد قدومي إلى السودان من بريطانيا، لتأسيس صحيفة “التغيير” ببضعة أشهر، كنتُ وأسرتي نرتب لعقد قران إحدى بناتي، فذهبتُ إلى الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي -يرحمه الله- ليعقد قران ابنتي، مثل شقيقتها الكبرى، إلا أنه نبهني إلى أمر -وعمداً أيضاً لا أذكره- ورشح ليّ البروفسور الحبر، باعتبار أنه أستاذي ويعرف مدى علاقتي به، فلن يُمانع. وبالفعل اتصلتُ به، ورحب بالمهمة مشكوراً مأجوراً.
وأكبر الظن عندي، أن الشيخ البروفسور الحبر يُوسف نور الدائم، انضم إلى الحركة الإسلامية منذ عهده الطالبي بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، واجتذبه إليها الجانب التربوي والدعوي، لا سيما وأنه كان مهتماً بالعمل الإسلامي. وكان مهتماً أيضاً بالتربية وتقويم السلوك، من خلال تنظيم حلقات الأسرة في بعض المساجد والمنازل. وربما غياب هذا الجانب التربوي في العمل الإسلامي الحركي، وبعد مؤتمر عام 1969، الذي حدثت فيه الغلبة لتيار الدكتور حسن الترابي، دفعته الأحداث دفعاً للانضمام إلى تيار البروفسور مالك بدري الذي أعطى التربية دوراً مهماً في تكوين العضوية. وبعد المصالحة الوطنية في يوليو (تموز) 1977، وجد البروفسور الراحل الحبر نفسه مع مجموعة الشيخ الراحل الصادق عبد الله عبد الماجد التي آثرت مبايعة الحركة الأم في مصر، وتسمت باسمها حركة الإخوان المسلمين، وورثت الاسم والمنهج الإخواني، الذي كان يميل إلى العمل التربوي الدعوي الاجتماعي. ولقد تم انتخاب البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم مراقباً عاماً للإخوان المسلمين في السودان، بعد تنازل الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد في عام 2008. وعلى الرغم، من اختلافه مع نظام الإنقاذ، لكنه قبل مبدأ المشاركة السياسية معها، فانتخب عضواً برلمانياً في المجلس الوطني، وتسنم رئاسة لجنة التعليم في البرلمان لدورتين.
كان شجاعاً جسوراً، يصدع بالحق، ولا يُبالي من تداعياته، من ذلكم، أن الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، قال في أحد لقاءات برنامجه التلفزيوني الشهير “لقاء المكاشفة” في عام 1979 “بعض الناس يمسك العصا من النصف، ونحن الولاء عندنا للثورة والاتحاد الاشتراكي (الحرب الحاكم آنذاك). فرد عليه الحبر يُوسُف نور الدائم بمحاضرة حاشدة، مما قال فيها “إننا لا نعرف ولاء إلا لله وللرسول والمؤمنين”.
ومن الضروري هنا، الإشارة إلى أن البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم، يجب أن يُخلد اسمه في جامعة الخرطوم، بأن يُسمى معلماً من معالمها باسمه، وعلى الأخ أحمد عثمان حمزة والي ولاية الخرطوم وابني دفعتي، وتتلمذنا معاً على البروفسور الراحل الحبر يُوسُف نور الدائم في كلية الآداب بجامعة الخرطوم أن يطلق اسمه على أحد شوارع أم درمان أو معلماً من معالمها البارزات. فإن موته قد هدم ركناً ركيناً من بُنيان السودان. وكأن الشاعر العربي عبدة بن الطبيب، عناه حين كان يرثي قيس بن عاصم:
وما كان قيس موته موت واحدٍ
لكنه بُنيان قومٍ تهدما
ألا رحم الله تعالى أستاذي الشيخ البروفسور الحبر يُوسُف نور الدائم، رحمةً واسعةً، ومغفرةً عظيمةً، وتقبله قبولاً طيباً حسناً، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات،
وأخلفه خيراً في زوجته الفضلي أسماء وأبنائه محمد وأبي بكر وعمر وامتثال ووداد وآلاء ومها. اللهم احشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم ارفعه في عليين، واكتبه عندك من المحسنين. وألهم آله وذويه وأهليه جميعاً، وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه وعارفي علمه وفضله، الصبر الجميل.
ولنستذكر فوق هذا وذاك، في هذا الموقف الصعيب الأليم، قول الله تعالى:
“وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”.