البروفسور أحمد محمد الحسن رائد توطين العلاج المناطقي بالسودان في رحاب الرحمن
غيب الموت، يوم الخميس 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، العالم النطاسي البروفسور أحمد محمد الحسن رائد علم الأعضاء في السودان والأستاذ بكلية الطب بجامعة الخرطوم، بعد أن أمضى جلّ عمره في العلم والبحث والتدريس والطبابة. فالموت لا محالة مُدرِكنا جميعاً، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”، وتأكيداً لِما ذهب إليه، في هذا الصدد، الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سارقٌ دَقّ شخصُهُ
يصولُ بلا كفٍّ ويسعى بلا رِجلِ
وانسل البروفسور أحمد محمد الحسن من دنيا الفناء إلى دار البقاء، في هدوءٍ وسكينةٍ اعتاد عليهما أهلوه وزملاؤه وتلاميذه.
وُلد البروفسور أحمد محمد الحسن في
العاشر من أبريل (نيسان) 1930. وعند الإطلاع على مسيرته الأكاديمية والعلمية، وسيرته الذاتية, نلحظ تفوقه المبكر في مجال الطب والطبابة، حيثُ التحق البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن بمدرسة كتشنر الطبية في عام 1955، وحصل عند تخرجه متفوقاً، على جائزة كتشنر في الباطنية والجراحة. وكان قد هيأ نفسه مبكراً، لولوج عالم البحث في علوم الطب والطبابة، غوراً وتحديثاً وتجديداً في عوالمها. فاستهوته دراسة علم الأمراض، فحصل على دبلوم علم الأمراض السريري من جامعة لندن في عام 1960. وحصل على الدكتوراه من جامعة أدنبرة في عام 1964. وكان من المؤسسين لكلية علم الأمراض الملكية في إنجلترا في عام 1964، وهو أول من نال زمالتها. وعند عودته إلى السودان عمِل على تأسيس اختصاص علم الأمراض، بالتدريس والبحث، ونشر العديد من الكتب والأوراق البحثية في مجال الأورام والأمراض المتوطنة، مما أهلته لنيل درجة الأستاذية (Professorship)، ليكون بذلك أول أستاذ (Professor)
في هذا العلم في عام 1966، وتقديراً لجهوده العلمية والبحثية، ونشره لما يزيد عن 200 ورقة علمية والعديد من الكتب، منحته جامعة الخرطوم درجة الأستاذية الممتازة (Emeritus Professor) في عام 1991. Emeritus or emerita is an honorary title for professors who want to stay active in scholarship following retirement. وهي عادة ما تمنح لذوي الخدمة الممتازة الطويلة في مجال اختصاصهم، لاستدامة عطائهم حتى بعد تقاعدهم
أما إذا تتبعنا مساره ومسيرته المهنية، طبابةً وإدارةً، نلحظ أنه تسنم العديد من المناصب الإدارية داخل الجامعة وخارجها.
وأسس البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن معهد المختبرات الطبية في عام 1966 الذى صار كلية المختبرات الطبية بجامعة الخرطوم لاحقاً. وعمِل عميداً لكلية الطب بجامعة الخرطوم في عام 1970، حيثُ أحدث فيها تطوراً ملحوظاً، برؤيةٍ ثاقبةٍ ومتقدمةٍ، لمهنة الطب والطبابة. وما أن أمضى عامه الأول في عمادة كلية الطب في جامعة الخرطوم، حتى تسنم منصب أول وزير للتعليم العالي والبحث العلمي في عام 1971، فأسسها على بُنيانٍ متينٍ، تخطيطاً وتنفيذاً. وكان أول رئيس لمجلس الأبحاث الطبية في المجلس القومي للبحوث (1972-1977).
كان البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن يعتقد اعتقاداً جازماً في أهمية المنظومات الطوعية لنشر الوعي الصحي بين المواطنين، في بعض الأمراض التي تحتاج إلى قدرٍ مهمٍ من التوعية والتثقيف الصحي للوقاية، فلذلك عمِل على تأسيس جمعية البلهارسيا في عام 1965، ووسجِل السودان للسرطان الذي أنشأه في عام 1966، بمعاونة الدكتور دينس بوركت والدكتور السيد داؤود حسن. وكان من مؤسسي معهد أمراض المناطق الحارة في عام 1993، والجمعية السودانية لطب المناطق الحارة في عام 1994، والأكاديمية الوطنية السودانية للعلوم في عام 2005. وامتد إسهامه الثر في تطوير الطب والطبابة، إلى إنشائه لمعهد الأمراض المتوطنة بجامعة الخرطوم في عام 1993، وبذل فيه جهداً مقدراً من خبرته المتراكمة في هذا الاختصاص الطبي، وقدم فيه رؤاه لمستقبل الأبحاث في أهم أمراض السودان، حيثُ جمع في ذلكم المعهد ما بين البحث في العلوم الأساسية، مثل المناعة والأحياء الجزيئية مع العمل الحقلي، فزاوج بصورةٍ تلقائيةٍ بين البحث والتطبيق.
وفي عام 1994، أسفرت جهوده العلمية عن تأسيس الجمعية السودانية لطب الأمراض المتوطنة التي أسهمت إسهاماً فاعلاً في تطوير طب المناطق الحارة، وأصبح أول رئيس لها. ولم يبخل بعلمه في الطب والطبابة على بلدان خارج السودان، حيثُ أسس قسم علم الأمراض في كلية الطب والعلوم الطبية بجامعة الملك فيصل بالدمام في المملكة العربية السعودية، وشغل أول رئيس له. كما أسس إدارة البحث والمنشورات والترجمة، وكان مديراً لها.
ولم يقتصر جهد البروفسور أحمد محمد الحسن الأكاديمي والعلمي والبحثي على المؤسسات والمنظومات التي أسسها في الخرطوم، على المستويين الجامعي والمجتمعي، بل امتد ذلكم الجهد المبارك، في إطار فلسفته في البحث العلمي الميداني، ليكون الجهد الطبي والطبابي بالقرب من المناطق التي تنتشر فيها مثل هذه الأمراض المتوطنة، إلى تأسيس مركز أبحاث أمراض المناطق الحارة في مِنطقة دوكا بولاية القضارف.
وفي رأيي الخاص، البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن كان من دعاة توطين العلاج المناطقي لبعض الأمراض المتوطنة، فيسر بهذه الفلسفة العلاج والوعي والتثقيف الصحي لمواطني تلكم المناطق التي جهده الطبي والبحثي غير منكورين.
وحسب الكثير من تلاميذه، أن البروفسور أحمد محمد الحسن، كان ينتقي معاونيه ومساعديه من خيرة تلاميذه في الأبحاث التي يجريها في فهم العلاقة المناعية بين مرض اللشمانيا الحشوية واللشمانيا الجلدية، مما أسفرت هذه الأبحاث عن تطوير أول لقاح للشمانيا الحشوية، تمت تجربته في المنطقة الموبوءة بنجاحٍ. ويُعد هذا الإنجاز الطبي من أهم إنجازات البروفسور أحمد محمد الحسن. بإلإضافة إلى مساهمته في فهم دور الأشعة فوق البنفسجية في مرضى الكالا أزار والأساس المناعي لذلك الأثر. ألهمت أبحاثه أجيالاً من الباحثين بالجمع ما بين العلوم الأساسية والتطبيقية السريرية.
عرفتُ البروفسور أحمد محمد الحسن -يرحمه الله- في عهدي الطالبي بجامعة الخرطوم في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما كنتُ قريباً من البروفسور عمر محمد بليل مدير جامعة الخرطوم الأسبق -تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات- إذ كنت أرافقه في زياراته المدرارة إلى مجمع كلية الطب، والتقي معه بالكثير من أساتذة الطب آنذاك وهو من بينهم- رحم الله الأموات منهم، ونسأ في أعمار الأحياء- واستضفته في برنامج الإذاعي اليومي آنئذٍ في الإذاعة السودانية. كان عالماً موسوعياً ليس في مجال الطب والطبابة فقط، بل في الشعر والأدب والموسيقى. وقد ألف سِفراً في الطب والموسيقى، وأهداني إياه، عندما ذهبتُ إليه مع الأخ البروفسور عاصم عبد الرحمن لندعوه نيابةً عن البروفسور مأمون حُميدة رئيس مجلس أمناء جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، لإلقاء محاضرة في تأبين البروفسور الراحل عبد الفتاح عبد القادر أستاذ علم الأمراض في كلية الطب بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، ورحب مشكوراً بالفكرة، وقدم محاضرة قيمة في علم الأمراض في تلكم المناسبة الحزينة. وأفدته بأن الجامعة أسمت قاعة باسمه، ضمن القاعات الثلاث الأُول.
أخلص إلى أن البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن كان عالماً موسوعياً، شغوفاً بعمله، كرس جُلَّ حياته للعلم والبحث والطبابة. وعمِل مخلصاً في تقديم النُصح والإرشاد لتلاميذه والباحثين الشباب، وأولاهم خالص رعايته، لتحقيق طموحاتهم العلمية والأكاديمية. وفي إطار هذا الجهد العلمي الأكاديمي، وضع البروفسور الراحل أحمد محمد الحسن خططاً محكمةً، لاستدامة النجاح لمركز التطوير التربوي للمهن الطبية والصحية في كلية الطب بجامعة الخرطوم.
ألا رحم الله تعالى العالم النطاسي البروفسور أحمد محمد الحسن، رحمةً واسعةً، ومغفرةً من لدن مليكٍ مقتدرٍ، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، وألهم آله وذويه وأهليه جميعاً، وأصدقاءه وعارفي علمه فضله، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي عبدة بن الطبيب، يرثي قيس بن عاصم:
وما كان قيس موته موت واحدٍ
لكنه بُنيان قومٍ تهدما
ولنستذكر فوق هذا وذاك، في هذا الموقف الصعيب الأليم، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.