الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

البحر الاحمر ساحة الصراع و محط التنافس الإقليمي و الدولي (3_5) السودان والبحر الأحمر : من الحرب الداخلية إلى صراع الموانئ والنفوذ (3)

د. اسامة محمد عبدالرحيم

على ضفاف هذا المسطح البحري الضيق نسبيًا، يدور صراع خفي حينًا، ومكشوف حينًا آخر، لكنه بالغ التأثير في تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية.

لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر مائي يربط الشرق بالغرب، بل تحوّل إلى مساحة جيوسياسية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، وتتشابك عنده خطوط السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والأمن، والسيادة، والنفوذ.

في هذه السلسلة من المقالات، نفتح نافذة لفهم التحولات العميقة في أمن البحر الأحمر، وكيف انتقل من كونه ممرًا تجاريًا إلى ميدان صراع مفتوح، تمهيدًا لتحليل أثر النزاعات القديمة والمستمرة، وعلى رأسها الحرب الدائرة في السودان، في إعادة تشكيل معادلات الاستقرار والسيطرة في هذا الإقليم الاستراتيجي.

المقدمة

رغم أن الحرب التي اندلعت في السودان منذ 15 أبريل 2023 تدور أساسًا في الخرطوم وولايات الداخل، فإن انعكاساتها الإقليمية امتدت بعيدًا عن ميادين القتال، وبلغت سواحل البحر الأحمر، حيث يُعاد رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي على موانئ البلاد وسواحله.
لم تكن هذه الموانئ يومًا مجرد منشآت اقتصادية، بل كانت دائمًا بمثابة أدوات استراتيجية في معركة أكبر تتجاوز السودان، لتشمل البحر الأحمر والقرن الإفريقي وخليج عدن.
هذا المقال يسلّط الضوء على الأبعاد الخفية والمعلنة لصلة الحرب السودانية بأمن البحر الأحمر، ويكشف كيف أصبحت الموانئ السودانية جوائز متنازعًا عليها في سباق النفوذ الإقليمي والدولي.

التنافس في البحر الأحمر من دوافع الحرب

لا يمكن عزل الحرب السودانية عن السياق الجيوسياسي المحيط بها، وخاصة صراع النفوذ في البحر الأحمر. فالسودان يمتلك ساحل (عربي–إفريقي) طويل على البحر الأحمر يبلغ حوالي 750 كلم، وتتحكم موانئه في منافذ استراتيجية حساسة قريبة من قناة السويس شمالًا، وباب المندب جنوبًا، وممرات عبور النفط والغاز من الخليج نحو أوروبا وآسيا. كما أن سواحله غنية بالثروات غير المستغلة، و منها:

1) احتياطيات كبيرة من النفط والغاز في المياه الإقليمية.

2) ثروات معدنية نادرة في الجزر البحرية.

3) موقع استراتيجي يؤهله لأن يكون مركزًا للتخزين والتكرير والتصدير البحري متعدد الوجهات.

لقد أدركت بعض القوى الإقليمية والدولية مبكرًا أن السيطرة أو التأثير على السودان، يعني امتلاك مفتاح الدخول إلى البحر الأحمر من خاصرته الغربية. و من هنا، يرى كثير من المراقبين أن البعد البحري كان جزءًا من دوافع هذه الحرب أو من حسابات من أشعلوها أو موّلوها أو أداروا توازناتها، حتى لو لم يكن هو السبب المعلن.

البحر الأحمر في الحسابات السودانية قبل الحرب

من حيث الفرص المينائية، يمتلك السودان عدة موانئ رئيسية على البحر الأحمر، أبرزها:

1) بورتسودان، و هو الميناء الرئيسي ومركز التجارة البحرية ( ويشمل الميناء الشمالي، الميناء الجنوبي و محطة الحاويات، الميناء الأخضر، ميناء الخير) حيث ان لكل من هذه الموانيء طبيعة عمل و تخصص مينائي.

2) سواكن، و هي ميناء تاريخي له أهمية استراتيجية عالية و ان كان يرتكز في طبيعة خدمته على الركاب و صادر الثروة الحيوانية.

3) ميناء بشائر، و يشمل مينائين (بشائر 1و 2) و هما مخصصان لعمليات صادر النفط.

4)كذلك هناك عدد من المراسي و المرافيء، بالاضافة الى الموانيء المقترحة و المخطط لها تشمل :
أ. أبو عمامة: كمشروع ميناء جديد طرحته الحكومة في 2022 و تم توقيع مذكرة تفاهم بخصوصه، و تم الغاؤها بعد الاتهامات السودانية الرسمية لدولة الامارات بالمشاركة في الحرب دعما لقوات الدعم السريع.

ب. عثمان دقنة (سواكن الجديدة): حيث بذلت سلطات الموانيء السودانية جهدا مقدرا من الاعمال و التجهيزات في بنيته التحتية توطئة لاكماله.

ج. ميناء هيدوب، و هو معني بصادر الثروة الحيوانية بشراكة صينية، حيث هناك مشكلات اجتماعية قبلية محلية تعترض بدء تشغيله بالرغم من اكتماله.

د. عدد من الموانئ المقترحة و المتخصصة تشمل (عقيق، ترنكتات، محمد قول، أو سيف)

وقد حاولت قوى مثل ( الإمارات وتركيا وروسيا، قطر) الحصول على موطئ قدم في هذه الموانئ قبل الحرب و بتصورات و رؤي مختلفة ، ولكن هذه المحاولات المتعلقة بهذه المشاريع تعطلت بسبب ارتباك الانتقال السياسي والممانعات الداخلية و المقاومات المجتمعية.

اليوم، وفي ظل عدم استقرار السلطة المركزية، عادت هذه المشاريع إلى الواجهة في صيغ مشبوهة أو ضبابية، وسط ضغط من قوى تبحث لها عن فرص و مواقع دائمة في البحر الأحمر.

الحرب مسرّع السباق للسيطرة على الموانئ

أدّت الحرب إلى تأثر المنظومة الإدارية والمؤسسية في السودان و وصولها في بعض الاحيان الى حافة الانهيار مع بلوغها حدود الانهاك و الضعف ، ما فتح الباب أمام:

1) تموضع القيادة السيادية للجيش و للدولة في بورتسودان، وتحولها إلى “عاصمة سياسية و إدارية مؤقتة”.

2) تحرّكات إماراتية وروسية وتركية ومصرية غير معلنة لتثبيت النفوذ في الموانئ.

3) عروض استثمارية ظاهرها إعادة تأهيل، وباطنها استحواذ استراتيجي طويل الأجل.

4) تحركات استخباراتية غير رسمية لتأمين مساحات على الساحل، أو رصد الأنشطة البحرية.

أصبحت الموانئ والسواحل السودانية الآن مسرحًا للتفاوض الجيوسياسي بوسائل ناعمة وخشنة معًا، دون أن يكون للسودانيين كلمة حاسمة في ما يجري.

الطائرات المسيّرة: رسائل الجو و البحر إلى الميناء

منذ منتصف 2024 بدأت منطقة بورتسودان و ما حولها في التعرض لحركة متقطعة و غير مؤثرة للطائرات المسيرة، لكن في بداية مايو 2025 تعرضت المدينة ومحيطها الساحلي لعدة هجمات جوية مكثفة نفذتها طائرات مسيّرة مجهولة الهوية. ووفق معلومات متقاطعة، فإن بعض هذه الهجمات:

1) انطلقت من البحر نفسه، ما يرجّح وجود منصات بحرية مسيّرة أو غواصات خفيفة.

2) بعضها الآخر انطلق من مناطق في شمال الصومال، وتحديدًا من محيط مدينة “بوساسو”، حيث تنشط شركات أمنية خاصة ومراكز استخباراتية إقليمية ودولية.

3) تشير تقارير إلى أن بعض الهجمات تنفذها جهات لا تتبع مباشرة لأي طرف سوداني، ولا حتى لقوات الدعم السريع، رغم أنها تخدم مصالحهم ميدانيًا مؤقتًا.

4) التقييمات الأولية تفيد بأن بعض هذه العمليات تنفذها شركات مرتزقة، ذات صلة بأوكرانيا أو أوروبا الشرقية، ممولة من أطراف إقليمية تسعى لإضعاف الجيش السوداني أو فرض توازن بحري جديد.

ان الهجمات الجوية بالطائرات المسيرة الذي شهدته منطقة بورتسودان و ما حولها مؤخرا من استهداف لعدد من المواقع الحيوية و الاستراتيجية من بني تحتية و موانيء و مطارات و محطات كهرباء و مستودعات وقود، إنما هو امتداد لاستراتيجية شل القدرات للجيش السوداني و لحكومة السودان الشرعية بغرض :

1) اجبارها على الرضوخ والرجوع للتفاوض مرغمة مستسلمة باحثة عن حلول مع ضعف في الموقف التفاوضي.

2) اجبارها على قبول دخول الطامعين في مواردها في الاستثمار و الاستفادة من ثرواتها و موقعها الاستراتيجي و وضعها الجيوسياسي المتميز

3) انهاك الجيش و شغله تجاه الشرق و البحر من اجل تقوية موقف الحليف من قوات الدعم السريع بمسرح العمليات بغرب البلاد بمناطق كردفان و دارفور.

إنها (حرب الظلّ) الممتدة على الساحل السوداني، تُدار بأيدٍ غير معلنة، وأهداف غير مصرح بها، ووسائل تتجاوز قدرة الفاعلين المحليين، في تأكيد على أن البحر الأحمر أصبح جبهة مستقلة داخل الحرب السودانية.

الأطراف المتنافسة على الموانئ السودانية

1) الإمارات، و التي تسعى لفرض نفوذ اقتصادي و سياسي، و ذلل بالحصول على عقود تشغيل طويلة الأجل لميناء “أبو عمامة” وميناء بورتسودان، وربما شراكات أمنية مستقبلية.كما تسعى لتغيير تركيبة الحكم و المؤسسات الامنية و العسكرية و كذلك الهيئات الصناعية الدفاعية، تستند في ذلك إلى مزاعم بأن معظم كوادر هذه المؤسسات تنتمي لتيارات إسلامية أو تحمل ميولًا أيديولوجية متشددة.

  1. تركيا، تحاول احداث اي وجود فعلي لها على سواحل البحر الأحمر بالسودان تجاه افريقيا، ان كان اقتصاديا او عسكريا ، وتراقب بشدة التحركات الإماراتية والمصرية.
  2. روسيا، تطمح لإحياء اتفاقها حول نقطة دعم لوجستي في بورتسودان، وتحويلها إلى قاعدة بحرية عسكرية دائمة، كما تبذل جهدها في اقامة نشاط اقتصادي مدني بمنطقة بورتسودان و ما حولها.
  3. السعودية ومصر، ترغبان و تعملان في سبل إغلاق الباب أمام أي تموضع إقليمي غير متناسق مع مصالحهما، وتسعيان لإعادة دمج الموانئ السودانية في منظومة الأمن القومي العربي المشترك. فمصر يشكل السودان و ساحله امتدادا طبيعيا لمجالها الحيوي و الاستراتيجي. كما ان السعودية، تعتبر السودان المقابل لها بساحل طويل غرب البحر الأحمر في عمقا استراتيجيا لحدود امنها القومي، و لذا فهي تحتاجه امنيا هادئا امنا مستقرا، كما ان رؤية السعودية 2030 تتطلب بحيرة امنة في البحر الأحمر و موانيء امنة و متطورة في سواحل السودان، الحقيقة ان مصر و السعودية يضم امنهما القومي السودان و يشمله.

5) قطر، و كانت قد عملت بجدية للاستثمار في تطوير ميناء سواكن الشمالي الجديد و رصدت موازنة معلنة حينها بلغت 4 مليار دولار، لكن تغير نظام الحكم في السودان في العام 2019 و تقلبات العلاقات الدولية التي صاحبت تلك الفترة ادت لتوقف النقاش حول ذلك المشروع.

  1. إسرائيل، تنظر إلى الساحل السوداني بوصفه حزامًا أمنيًا خلفيًا لإيلات، ومجالًا استخباراتيًا لرصد إيران والحوثيين، كما تنظر الى ساحة السودان كعمق استراتيجي تشمله دوائر امنها القومي .إسرائيل تعمل و بشكل عملي على تحييد السودان و قطع خط الامداد المتوهم لتمرير السلاح و الذخيرة الى غزة و مجموعة حماس الفلسطينية.

7) امريكا، وكعادتها، تعمل على منع روسيا من الاستئثار في السودان، وادخارا لمكنوزاته الى حين ان يتوافر عندها ظروف و رغبة مناسبتين لدخولها السودان استثمارا و اقتصادا و تحالفا سياسيا و امنيا.

8)الصين، رغم علاقتها المتميزة بالسودانو رغم انفتاحها الكبير و المعلن تجاه افريقيا اقتصاديا و تجاريا و الذي كان يمكن ان يكون السودان و موانئه راس رمحه ، لكن هناك فتور في تنمية و تطوير هذه العلاقة بما يخدم مصالح البلدين، اذ ان حجم التبادل التجاري المدني و العسكري و الاستثمار الحكومي في السودان يظل دون الطموح و ان كانت الصين تدعم السودان في المحافل الدولية و تقف مع قضاياه دعما و سندا بائنا.

الأثر الأمني والعسكري للحرب على البحر الأحمر

بالمقابل فان الحرب و التي تشغل الدولة السودانية و الجيش السوداني و كافة المؤسسات الامنية و النظامية، تترك و بلا شكَ اثرا تجاه تامين الساحل و البحر الأحمر من قبل السودان َ بالتالي يمكن رصد الاثار كما يلي:

1) انكشاف الساحل السوداني أمنيًا نتيجة غياب الدولة المركزية و انشغالها و تغير الاولويات او اعادة ترتيبها و كذلك تنسيق الجهود و توجيهها للمعركة الآنية .

2)إمكانية استخدام الموانئ كنقاط تهريب للسلاح أو المقاتلين أو الوقود.

3) تعدد اللاعبين، ما يجعل الشاطئ منطقة تجاذب استخباراتي متداخل.

4) تهديد الملاحة الدولية عبر البحر السوداني، خاصة إذا توسعت الحرب أو تم استغلال الموانئ في أعمال عدائية عبر وسطاء.

سيناريوهات المستقبل المحتملة

ان السيناريوهات المستقبلية المحتملة بنهاية الحرب او التمهيد لنهاياتها لا يخرج عن الآتي :

1) إنتصار مشروع الدولة الوطنية، وعندها ستكون هناك فرصة لإعادة تأهيل الموانئ بشراكات متوازنة، وبناء استراتيجية بحرية وطنية تحفظ السيادة والثروة.

2) إستطالة أمد الحرب أو تفكك الدولة، حينها ستُصبح الموانئ رهائن لدى الفاعلين الإقليميين، وستتقلص قدرة السودان على اتخاذ قرار مستقل، مما يجعل سواحله مسرحًا دائمًا للنفوذ والتجاذب.

3) الاتجاه لتفاهمات و تفاوض بفعل محلي او اقليمي او دولي، ينتهي برؤى و تسويات تجعل من الموانئ و الموارد و الثروات غرضا و هدفا و موضعا للاتفاق و التبادل المصلحي.

الخاتمة

لم تعد الموانئ والسواحل السودانية مجرد واجهات اقتصادية، بل أصبحت نقاط ارتكاز استراتيجية في معركة النفوذ في البحر الأحمر.
فالحرب التي تبدو داخلية هي في حقيقتها جزء من صراع أكبر على الممرات البحرية، وعلى مستقبل التوازن الجيوسياسي في الإقليم.
إن الحفاظ على سيادة السودان البحرية يتطلب استعادة الدولة، وتحصين القرار، وصياغة عقيدة أمن بحري وطني، تعي أن البحر ليس مجرد شاطئ، بل جبهة وطنية مفتوحة على كل الاحتمالات.

كل هذه المؤشرات تقود إلى ضرورة مراجعة الرؤية السودانية تجاه البحر الأحمر، باعتباره مركزًا من مراكز السيادة الوطنية وليس مجرد منفذ بحري، وهي المهمة التي سنحاول تلمّس معالمها في المقال القادم حول خريطة النفوذ ومصير السيادة.

نواصل….

الخميس 17 يوليو 2025م

د. أسامة محمد عبدالرحيم
عقيد بحري ركن متقاعد
دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)

اترك رد

error: Content is protected !!