حوض البحر الأحمر: النزاعات
الإقليمية السابقة وأثرها على الأمن البحري (2)

*
على ضفاف هذا المسطح البحري الضيق نسبيًا، يدور صراع خفي حينًا، ومكشوف حينًا آخر، لكنه بالغ التأثير في تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية.
لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر مائي يربط الشرق بالغرب، بل تحوّل إلى مساحة جيوسياسية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، وتتشابك عنده خطوط السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والأمن، والسيادة، والنفوذ.
في هذه السلسلة من المقالات، نفتح نافذة لفهم التحولات العميقة في أمن البحر الأحمر، وكيف انتقل من كونه ممرًا تجاريًا إلى ميدان صراع مفتوح، تمهيدًا لتحليل أثر النزاعات القديمة والمستمرة، وعلى رأسها الحرب الدائرة في السودان، في إعادة تشكيل معادلات الاستقرار والسيطرة في هذا الإقليم الاستراتيجي.
المقدمة
لم يتبلور المشهد الأمني في البحر الأحمر بمعزل عن اليابسة؛ بل تسبّبت سلسلة من النزاعات المسلحة والخلافات الحدودية حوله في تكريس هشاشته وتحويله إلى ميدان تنافس مستمر.
من الصومال وصولًا إلى مضيق تيران، تُبرز هذه الصراعات كيف يمكن لمشكلٍ محلي أن يتحوّل بسرعة إلى أزمةٍ إقليمية عابرة للحدود تهدّد الملاحة والتجارة العالمية.
يستعرض هذا المقال، أبرز النزاعات و التوترات التي شهدها حوض البحر الأحمر، ويحلّل انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على أمن هذا الممر الاستراتيجي.
الصومال: الدولة المنهارة وعودة مظاهر القرصنة
أدّت الحرب الأهلية وانهيار مؤسسات الدولة في الصومال منذ تسعينيات القرن الماضي إلى بروز القرصنة كظاهرة تهدد الملاحة الدولية قبالة القرن الإفريقي.
ورغم تراجعها لفترة، فإن هذه الظاهرة شهدت مؤخرًا عودةً ملحوظًةً، حيث سُجّلت عشرات الحوادث البحرية منذ أواخر 2023، بالتزامن مع اضطرابات في البحر الأحمر، هذه الاضطرابات اتهمت بها جهات مسلحة عدة على رأسها (حركة. الشباب المجاهدين).
فقد عادت القرصنة البحرية للظهور مجددًا قرب منطقة القرن الإفريقي والسواحل الصومالية خلال الفترة الأخيرة، بعد سنوات من التراجع الملحوظ منذ عام 2015. لكن هذه العودة لا تحدث بشكل تقليدي فقط، بل في سياق أمني جديد أكثر تعقيدًا يتداخل فيه ( ضعف الدولة الصومالية، تفكك الأقاليم،نشاط الجماعات المسلحة مثل حركة الشباب المجاهدين، واضطراب الأمن البحري في البحر الأحمر وباب المندب نتيجة حروب اليمن والسودان وهجمات الحوثيين) .
إن أبرز المؤشرات على عودة القرصنة مؤخرًا تتمثل في الاتي:
1) تصاعد الحوادث منذ نوفمبر 2023، حيث سجلت أولى عمليات اختطاف سفن تجارية كبيرة بعد سنوات من التوقف. و في الأشهر اللاحقة، (ديسمبر 2023 – مايو 2024)، وقعت أكثر من 40 حادثة بين محاولات اختطاف فعلية، أو اقتراب زوارق مشبوهة، أو تهديدات بالرصد والابتزاز. كما ان التقارير الدولية وصفت الظاهرة بـ (الانتكاسة الأمنية) ، وأشارت إلى أن بعض القراصنة باتوا يستخدمون تقنيات أكثر تطورًا، مثل أجهزة GPS المموهة والطائرات بدون طيار الاستكشافية.
2) تركزت المنطقة الساخنة الجديدة و النشاط و بشكل رئيسي على (بونتلاند _بوساسو، الساحل الشمالي للصومال المطل على خليج عدن، و المنطقة قرب ممر باب المندب).
3) تشير معلومات استخباراتية إلى أن بعض خلايا القرصنة لها ارتباط مباشر أو غير مباشر مع الجماعات المسلحة و بحركة الشباب المجاهدين، أو تعمل بتسهيل من أمراء الحرب المحليين. كما أن هناك تقارير عن شركات أمنية خاصة تتعمد غضّ الطرف أو التواطؤ في بعض الحالات، مقابل حصة من الفدية أو التمرير اللوجستي لمصالح معقّدة.
4) كان للحرب في اليمن والبحر الأحمر انعكاسات واضحة ادت لعودة ظاهرة القرصنة بالبحر الاحمر، حيث ان الانسحاب المؤقت لبعض القوات الدولية لحماية الملاحة نتيجة التوتر مع الحوثيين، أتاح فراغًا أمنيًا نسبيًا. كذلك فإن بعض القراصنة يتحركون تحت غطاء تهديد الحوثيين أو يختلطون بمهربين وسفن غير حكومية، مما يصعّب رصدهم.
هذا الواقع أدى إلى زيادة كلفة الشحن والتأمين على السفن العابرة، ودفع العديد من الشركات إلى تغيير مساراتها نحو رأس الرجاء الصالح، ما يعني أن تهديدًا قادمًا من دولة منهارة يمكن أن يعطل طريقًا تمر عبره نسبة كبيرة من التجارة العالمية.
الحرب في اليمن: باب المندب تحت الضغط
منذ اندلاع الحرب اليمنية عام 2015، تحوّل مضيق باب المندب إلى ساحة صراع إقليمي / دولي، حيث استخدمت جماعة الحوثي، بدعم إيراني، الطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للسفن لتهديد الملاحة.
وفي العامين الأخيرين، تصاعدت هذه الهجمات، مما أدى إلى غرق سفن تجارية وتعليق خطوط نقل النفط والسلع في الممر الحيوي، وسط عجز مؤقت للقوى الدولية عن احتواء التصعيد.
تُظهر هذه الحالة كيف أن جماعة غير دولية، مدعومة من دولة راعية، قادرة على شلّ الملاحة العالمية وتعطيل اقتصاد دولي بأكمله.
حروب اسرائيل في غزة وإيران: البحر الأحمر كساحة لصراع المحاور
كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة (في الفترة من أكتوبر 2023 و الى يناير 2024)، ثم المواجهة الأخيرة المباشرة بين إيران وإسرائيل (أبريل 2024)، عن توسّع مسرح المواجهة إلى البحر الأحمر، فقد شارك الحوثيون ( بوصفهم حلفاء لإيران وحماس) في القتال، من خلال استهداف ميناء إيلات والمناطق الجنوبية من إسرائيل بالصواريخ والمسيّرات، إلى جانب استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة في البحر الأحمر وباب المندب.
تسببت هذه العمليات في اضطراب حركة الملاحة، وارتفاع حاد في التأمين البحري، وانسحاب مؤقت لبعض الناقلات العالمية من الممر. وأصبحت بذلك سواحل اليمن جزءًا فعليًا من ساحة الصراع الإقليمي، وأكدت أن البحر الأحمر لم يعد ساحةً محايدة، بل جزءٌ من مركز المواجهة الجيوسياسية العالمية.
(إرتيريا – إثيوبيا) : سلام هشّ واستراتيجية (البحث عن منفذ)
انتهت الحرب بين إرتيريا وإثيوبيا (1998–2000) رسميًا باتفاق سلام وُقّع في 2018، لكن التوتر لم يغِب و ظل حاضراً. ثم عاد الجدل مع تجدد النزاع في إقليم تيغراي، وصدور تصريحات رسمية إثيوبية تطالب بـ (حق في منفذ بحري مباشر) ، في إشارة غير مباشرة إلى إرتيريا وساحلها على البحر الأحمر.
هذا النزاع، إذا تجدّد، فإنه و بلا شك قد يعيد عسكرة الممرات البحرية، ويجذب قوى إقليمية ودولية للتموضع مجددًا كما حدث سابقًا.
(إرتيريا – جيبوتي) : الجبهة المنسية
اشتعل النزاع الحدودي بين البلدين عام 2008 في منطقة رأس دميرة، ولا يزال التوتر قائمًا رغم الوساطات الأممية والقطرية.
تقع جيبوتي في موقع حساس وتحتضن خمس قواعد عسكرية أجنبية (أمريكية، فرنسية، صينية، إيطالية، يابانية)، ما يجعل أي اشتباك جديد في المنطقة مرشحًا للتدويل السريع وتعطيل حركة الملاحة في أحد أنشط موانئ البحر الأحمر.
(تيران وصنافير) : إعادة ترسيم السيادة ومستقبل المرور
أثارت عملية نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية عام 2017 جدلًا إقليميًا ودوليًا. حيث أصبحت السعودية بعد هذا الترسيم شريكًا رئيسيًا في ضبط مدخل خليج العقبة، وهو ما يمس مباشرة مصالح إسرائيل والأردن ومصر. و تزامن ذلك مع مشاريع لتطوير المنطقة كجزء من مشروع (نيوم) ، ما أضفى على الجزر بعدًا استراتيجيًا وسياحيًا وأمنيًا مركّبًا.
أرخبيل دهلك: الوجود الإسرائيلي المقلق
تفيد تقارير استخباراتية متعددة و تؤكد وجود منشآت إسرائيلية غير معلنة في أرخبيل دهلك الإرتيري منذ التسعينيات، تشمل محطات رادار وتنصّت ومرافئ دعم لوجستي. هذا الوجود يمنح إسرائيل قدرة على مراقبة حركة الملاحة ومتابعة النشاط الإيراني والحوثي في جنوب البحر الأحمر، ويجعل التوازن البحري الإقليمي متأثرًا بعامل استخباراتي دائم. كما ان هذا التواجد يمثل قلقا دائمًا لخصومها في المنطقة.
جزر حنيش: تسوية قانونية دون مصالحة سياسية
كان النزاع اليمني – الإرتيري على جزر حنيش (1995) أحد أبرز النزاعات المسلحة في حوض البحر الأحمر. ورغم صدور حكم دولي لصالح اليمن عام 1998، فإن الخلاف لم يُحلّ جذريًا، وما تزال هذه الجزر تُعتبر نقطة توتر محتملة في حال تدهورت العلاقات الثنائية.
كما أن تصاعد نفوذ جماعة الحوثي المدعومة من إيران في الساحل الغربي اليمني، يجعل هذه الجزر أكثر حساسية، لاسيما وأن موقعها الاستراتيجي يمنح من يسيطر عليها قدرة على مراقبة حركة الملاحة عبر باب المندب وتهديدها عند اللزوم، ما يُعيد إبراز الجزر بوصفها عنصرًا مرشحًا للاستخدام في الصراع الإقليمي المستمر.
النزاعات السابقة : الدروس الإستراتيجية
من خلال استعراض هذه النزاعات، يمكن استخلاص عدة نتائج استراتيجية مهمة منها:
1) أن أمن البحر يتشكّل من البر، و أن كل صراع بري في الدول الساحلية يجد طريقه إلى التأثير في الملاحة البحرية.
2) أن الفراغات تستدعي التدويل، وكلما غابت الدولة الوطنية، كلما تسارعت القوى الدولية والإقليمية لملء الفراغ بما يخدم مصالحها ، ما يعقّد الأوضاع.
3) الكلفة الاقتصادية فورية وشاملة و تعطل الملاحة أو تهديدها يرفع الأسعار عالميًا، من الطاقة إلى الغذاء و بشكل سريع و مباشر.
4) الغياب البين لآلية أمنية إقليمية فعّالة، ورغم إنشاء (مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن) عام 2020، إلا أن غياب الإرادة الجماعية والتباين بين المصالح جعل دوره محدودًا وغير مؤثر في إدارة الأزمات.
الخاتمة
تُظهر هذه النزاعات أن البحر الأحمر ليس مجرد مساحة بحرية عابرة، بل هو في جوهره فضاء سياسي وأمني تُعيد تشكيله النزاعات البرية والبحرية باستمرار. وكل دراسة لأمن البحر الأحمر اليوم، بما في ذلك تأثير الحرب السودانية الحالية، لا بد أن تُؤسس على فهم عميق لهذه الخلفيات، لأن التهديدات تتغير في أدواتها وأشكالها، لكنها تستنسخ ذات الأنماط التاريخية من دول منهارة، صراعات إقليمية، فراغات أمنية، وتدويل سريع.
نواصل…..
- عقيد بحري ركن متقاعد
دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)