الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

البحر الأحمر مسرح الصراع المفتوح القادم

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

لم يعُد البحر الأحمر يُقرأ في عالم اليوم بوصفه معطىً جغرافيًا ثابتًا أو ممرًا بحريًا تقليديًا تحكمه خرائط الملاحة وحدها، بل بات فضاءً استراتيجيًا متحوّلًا تتقاطع عنده وفوقه طبقات متراكبة من المصالح والأزمات والاختبارات الأمنية. ففي هذا الحيز الضيق نسبيًا، تتكثف رهانات التجارة العالمية، وأمن الطاقة، وميزان الردع البحري، بما يجعله أحد أكثر المسارح حساسية في معادلات الصراع الدولي المعاصر.

هذا التحوّل لم يكن وليد حدثٍ واحد، بل نتيجة تراكمات استراتيجية بدأت منذ نهاية الحرب الباردة، وتسارعت بعد أحداث 11 سبتمبر، ثم دخلت طورًا جديدًا أكثر حدّة بعد الحرب في اليمن، والحرب في غزة، وما تبعها من اضطراب واسع في أمن الملاحة الدولية. ومع كل أزمة، كان البحر الأحمر ينتقل خطوة إضافية من كونه ممرًا محايدًا إلى كونه ساحة اشتباك غير معلن.

تُكتسب جغرافيا البحر الأحمر قيمة استثنائية مهمة؛ فهو يربط بين ثلاث قارات (آسيا، إفريقيا، أوروبا)، ويتحكم في واحد من أهم المضايق البحرية في العالم (باب المندب)، الذي يُعد الامتداد الجنوبي الحيوي لقناة السويس. لكن الجغرافيا وحدها لا تصنع الصراع، بل طريقة توظيفها هي ما يصنع ذلك. فحين تتحول الممرات البحرية إلى أدوات ضغط سياسي، تصبح السفن التجارية رسائل سياسية، وتغدو حماية الملاحة ذريعة دائمة لإعادة التموضع العسكري.

الخطاب الدولي السائد يتحدث وباستمرار عن حماية حرية الملاحة، وضمان انسياب التجارة، ومكافحة القرصنة والتهديدات غير التقليدية. غير أن الواقع يكشف أن عسكرة البحر الأحمر تجاوزت هذه المبررات منذ وقت طويل. فالقواعد العسكرية المنتشرة على ساحلي البحر الأحمر، وفي الجزر القريبة منه، لم تُنشأ فقط لمواجهة تهديدات طارئة، بل جاءت ضمن استراتيجية تموضع طويل الأمد. وهنا يبرز سؤال جوهري؛ هل تحمي هذه القوات البحر الأحمر؟ أم تحمي مصالح من نشرها؟

إن ما يجري اليوم في البحر الأحمر لا يشبه الحروب البحرية التقليدية. فنحن أمام تهديدات غير متماثلة، وفواعل غير دولية، واستخدام للاقتصاد كسلاح، وتداخل متزايد بين المدني والعسكري. والصراع هنا لا يُدار بالسلاح والعتاد وحدهما، بل بالإعلام، وبالأسواق، وبالتأمين البحري، وبسلاسل الإمداد. إنه، بلا شك، نموذج متقدم لما يُعرف بحروب الجيل الخامس، حيث تصبح السفن التجارية أهدافًا غير مباشرة، وتتحول الموانئ إلى أوراق تفاوض، ويغدو الاستقرار ذاته “سلعة سياسية” يُتداول عليها وتُقايَض بها المصالح، سلعة ينشدها الجميع و يسعون في طلبها.

عدد من الفاعلين الأساسيين يلعبون على مسرح البحر الأحمر او يديرون مشاهده، لذا يجب توضيح تصنيف الأدوار وحدود التأثير، و عليه يمكن تصنيف الفاعلين في مسرح البحر الأحمر إلى ثلاث دوائر رئيسية متداخلة:

القوى الدولية الكبرى: وهي القوى التي ترى في البحر الأحمر جزءًا من منظومة الأمن العالمي وسلاسل الإمداد الاستراتيجية، وتتعامل معه باعتباره امتدادًا مباشرًا لصراعاتها الأوسع على النفوذ والردع والهيمنة البحرية. حضور هذه القوى لا ينفصل عن حسابات المنافسة بين الشرق والغرب، ولا عن حماية طرق التجارة والطاقة التي تقوم عليها اقتصاداتها.

القوى الإقليمية المحيطة: وهي دول تسعى إلى تثبيت أدوارها الإقليمية، أو توسيع نطاق نفوذها البحري، أو تأمين عمقها الاستراتيجي عبر السيطرة على الموانئ والجزر ونقاط الاختناق. هذه القوى غالبًا ما تتحرك عبر تحالفات مرنة، أو ترتيبات أمنية جزئية، وتستخدم البحر الأحمر كرافعة لتعزيز موقعها في الإقليم الأوسع.

الفواعل “غير الدولتية”: وهي كيانات و جماعات وظيفية، وتشمل جماعات مسلحة، وشبكات ضغط، وأدوات غير مباشرة تُستخدم لإرباك الملاحة، أو رفع كلفة التأمين، أو اختبار خطوط الردع، دون الانزلاق إلى مواجهة تقليدية مباشرة. وجود هذه الفواعل يمنح القوى الكبرى هامش الإنكار الدبلوماسي، ويحوّل البحر الأحمر إلى ساحة اختبار منخفضة الكلفة السياسية وعالية التأثير الاقتصادي.

وفي ظل هذا التداخل، يصبح البحر الأحمر مساحة مثالية لإدارة الصراع بالوكالة، حيث تُختبر قدرة الأسواق على التحمل، وصبر الخصوم، وحدود التدخل دون تجاوز الخطوط الحمراء.

ورغم أن دول البحر الأحمر هي الأكثر تأثرًا بما يجري، إلا أنها الأقل تأثيرًا في مسار الأحداث، والأضعف حضورًا في صناعة القرار. ولا يعود ذلك فقط إلى محدودية الإمكانيات، بل إلى غياب رؤية مشتركة، وهشاشة الدولة الوطنية في بعض هذه الدول، وارتهان القرار السيادي للخارج. وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ حين نجد أن البحر الأحمر يُدار من خارجه، بينما تدفع ثمنه دوله المشاطئة.

ومن بين كل ذلك، يقف السودان، صاحب أحد أطول السواحل على البحر الأحمر، دون أن يُسمح له بلعب دور يتناسب مع موقعه وإمكاناته. فالحرب الدائرة في السودان لا يمكن فصلها عن هذا السياق الإقليمي الأوسع، حيث تُعاد هندسة الأدوار، وتُعطَّل القدرات، ويُستهدف الاستقرار ذاته كخيار استراتيجي. وليس من قبيل المصادفة أن يُترك السودان في حالة سيولة أمنية وسياسية، في لحظة يُعاد فيها رسم خريطة النفوذ في البحر الأحمر.

إن البحر الأحمر لم يعد ممرًا محايدًا، ولم يعد ساحة هامشية بعيدة عن مركز الصراع. إنه اليوم ساحة صراع مفتوح، تُدار فيه المعارك بوسائل غير تقليدية، وتُقاس فيه النجاحات بحسابات الخسائر والأرباح الاقتصادية، وبمدى القدرة على فرض النفوذ وتحقيق الإرادة السياسية. وأي دولة لا تُدرك هذه الحقيقة، ولا تمتلك رؤية واضحة لدورها في هذا المسرح، ستجد نفسها عاجلًا أم آجلًا ليست طرفًا في الصراع، بل موضوعًا له، تدفع ثمنه من أمنها وسيادتها ومستقبلها.

الثلاثاء 30 ديسمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!