
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتناسل الأخبار بوتيرةٍ لم يشهدها التاريخ من قبل ، باتت الأفكار تتبدّل في عقول بعض الناس مع كل حادثٍ جديد أو خبرٍ عابر ، وكأنها أوراقٌ في مهبّ الريح . تتغيّر القناعات بتغيّر المشهد، وتتبدّل المواقف بتبدّل الاتجاه ، حتى غدا الفكر في كثيرٍ من الأحيان مرآةً للحدث لا مرآةً للعقل.
هذه الظاهرة الإنسانية القديمة اتّسعت رقعتها في عصر تدفّق المعلومات، حيث أصبحت الشاشات هي المعلم الأكبر ، والمواقع هي مصدر الوعي ، ووسائل التواصل هي الموجّه الخفي للرأي العام . مع كل حدث جلل أو نبأ مثير ، نجد من يبدّل رأيه في لحظة، دون تروٍّ أو تمحيص، ودون ميزانٍ فكري يستند إليه عند الحكم أو التقدير.
إنّ الإنسان الذي يفتقر إلى منظومة فكرية متماسكة يبقى أسيرًا لكل مؤثرٍ خارجي، ينساق مع الموجة ، ويستجيب للعاطفة قبل العقل. هذا الاضطراب في المواقف لا يعود فقط إلى ضعف المعرفة، بل إلى هشاشة المرجعية الداخلية التي تقي صاحبها من التذبذب والتقلب. فالفكر من غير قاعدةٍ صلبة، كالسفينة من غير دفة، تتقاذفها الأمواج حيث شاءت.
لا شك أن العاطفة تلعب دورًا كبيرًا في تغيّر الأفكار . فالأحداث المؤلمة أو المثيرة تترك أثرًا عميقًا على النفس ، فتقود الإنسان إلى مواقف متسرعة، فيغضب فيتعصب ، أو يخاف فينسحب ، أو يتحمس فيندفع . وهنا تغيب الموضوعية، ويعلو صوت الانفعال على صوت العقل.
ثم يأتي العامل الاجتماعي ، فالرغبة في القبول والانتماء إلى الجماعة تدفع بعض الأفراد إلى مجاراة الرأي العام، ولو على حساب قناعاتهم. وهو ما يُعرف في علم النفس بـ”الامتثال الاجتماعي”؛ أي التكيّف مع رأي الجماعة خشية العزلة أو الرفض. وهكذا تتحول المواقف إلى استجابةٍ لضغطٍ اجتماعي أكثر منها قناعة فكرية.
تتضاعف هذه التأثيرات في زمن الإعلام المفتوح ، حيث تُبث الأخبار بطريقةٍ مشحونةٍ بالعواطف ، تُوجّه المتلقي أكثر مما تُنير له طريق الفهم . فيغيب التفكير النقدي ، ويحلّ محله التلقي الانفعالي الذي يجعل الفرد يعيش على وقع المعلومة اللحظية دون نظرٍ أو تحليلٍ عميق.
ومع ذلك ، فإن الثبات الفكري لا يعني الجمود أو الانغلاق ، بل هو توازنٌ دقيق بين الانفتاح على التغيير ، والتمسّك بالمبادئ الراسخة التي لا تتبدل بتبدّل الزمان . فالفكر الواعي هو الذي يميّز بين المتغير والمطلق ، ويزن كل جديد بميزان القيم لا بالعاطفة.
ولتحقيق هذا التوازن ، يحتاج الإنسان أولاً إلى مرجعية فكرية واضحة تستند إلى قيم الحق والعدل والصدق ، فهي الجذور التي تمنح الفكر ثباته وصلابته. كما يجب أن يتسلّح بمهارة التفكير النقدي ، الذي يجعله يسأل دائمًا: من قال؟ ولماذا قال؟ وهل ما قيل يستند إلى دليل؟ فبمثل هذا التساؤل يحصّن المرء فكره من الانقياد الأعمى ، ويصبح حرًّا في قناعاته لا تابعًا للأصوات الأعلى .
يأتي بعد ذلك الهدوء قبل الحكم، فالحكمة تقتضي أن يُؤجَّل إصدار الأحكام حتى تهدأ العواطف وتتضح الرؤية . فالقرار الذي يُتخذ في لحظة غضب أو انفعال ، غالبًا ما يكون أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب. قال تعالى في محكم تنزيله:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات: 6)
وهي قاعدة قرآنية عظيمة للتثبت والتروّي، تُرسّخ قيمة التبيّن قبل التصديق، وتحضّ على التحقق قبل التفاعل.
لا يقلّ عن ذلك أهميةً الاطلاع من مصادر متعددة، فالحقيقة لا تسكن جهةً واحدة، ومن يقف عند رأيٍ واحدٍ أو مصدرٍ واحدٍ، يرى نصف الصورة ويظنها كاملة. أما من يقرأ بتنوعٍ واتزان، فإنه يبني وعيًا عميقًا، ويصبح قادرًا على التمييز بين الرأي والمعلومة، وبين الدعاية والحقيقة.
إنّ تحقيق التوازن الفكري في عالمٍ متقلب ليس رفاهية، بل هو حاجةٌ ملحّة لضمان سلامة الوعي واستقرار المجتمع . فالعقل المتوازن هو الذي يمنح صاحبه الطمأنينة في مواجهة التناقضات، فلا يندفع مع كل موجة، ولا يجمد أمام كل جديد، بل يزن الأمور بميزانٍ منضبط، كما قال تعالى:
“وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا”
(البقرة: 143)
فالمتوازن لا تهزّه العواصف الفكرية ، لأنه متجذر في قيمه ، منفتح على المعرفة ، عارف بحدود التغيير وحدود الثبات . كل خبرٍ بالنسبة له مادة للتفكير لا للتأثر ، وكل حدثٍ فرصة للتأمل لا للتقلب .
وفي نهاية المطاف ، يبقى البحث عن الحقيقة هو الغاية النبيلة التي تميّز العقول الحرة . غير أن هذه الرحلة لا تكتمل إلا بثلاثة مفاتيح: عقلٍ واعٍ يُمحّص ، وقلبٍ نقيٍّ يُنصف ، وإرادةٍ صادقةٍ تبحث عن الصواب لا الانتصار . ومن جمع هذه الثلاثة، فقد وجد توازنه ، وامتلك بصيرته ، وسار في طريقٍ لا تغيّره العواصف ولا تضلّه الأخبار.




