الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

الباب البجيب الريح… أغلقه بالوعي

د. امجد عمر محمد


كل إنسانٍ يحلم بحياةٍ راسخة الجذور ، هادئة الظلال ، تُظلّلها طمأنينةٌ يزرعها الاستقرار وترويها الأيام الحُلوة . يحلم الشاب بأن يشق طريقه بثبات في دراسته ، ثم يمسك بيد النجاح ليبلغ عمل او ظيفةً يرضى عنها قلبه قبل جيبه ، فيبني بها بيتًا تُقيم على أركانه السكينة والمودة . يرسم في خياله ملامح محبوبته ، تلك التي يمنّ الله بها عليه لتكون رفيقة العمر ، ثم يرزقه منها أبناءً يحلم أن يراهم أنبل منه خُلقًا وأوسع منه علمًا .

لكن كل هذا البناء الحالم قد ينهار فجأة… ليس لأن العالم تغيّر فقط ، بل لأن بعض الآباء ما زالوا ينظرون إلى أبنائهم بعيون الأمس ، بينما يعيش الأبناء في واقعٍ مختلف تمامًا . لم تعد الفجوة بين الجيلين فجوة زمنٍ أو خبرة ، بل غدت فجوة وعي ، وثقافة ، ونمط حياة ، تضاعفها سرعة التكنولوجيا وتحوّل المعرفة إلى سيولٍ إلكترونية تنهمر على الطفل قبل أن يشتد وعيه .

في عصرنا الراهن ، لم تعد الأسرة المصدر الوحيد للقيم والتربية. لقد أصبحت شاشة صغيرة بحجم الكفّ قادرة على أن تهزم صوت الأب ، وتنافس توجيهات الأم ، وتكسر ما تبنيه الأسرة من مبادئ في سنوات. الأصدقاء الافتراضيون الذين يمرحون مع الطفل في الألعاب الإلكترونية قد يفوق أثرهم أثر أصدقاء الحيّ والمدرسة ، والأخطر من ذلك أن خلف بعض هذه الألعاب شركات ضخمة وأجندات خفية لا تعبأ بما تتركه في وجدان الأطفال .

خذ مثلًا ألعابًا كـ فورتنايت وبوبجي وGTA… ليست مجرد تسلية كما نظن . إنها دروس صامتة في العنف ، والتمرد ، والاستخفاف بالقانون ، تُقدَّم في قالب ممتع يسهل ابتلاعه . كم من طفلٍ بدأ يتقمص شخصية “القاتل البطل” ، وكم من مراهقٍ صار يقيس نجاحه بعدد الخصوم الذين “قضى عليهم” ! هكذا تُعاد صياغة الوعي من دون أن نشعر.

الأمر ذاته ينسحب على مسلسلات الرسوم المتحركة التي تُبث بلا أي غربلة ، وتستهلك من وقت أبنائنا ساعات طويلة كل أسبوع . مسلسلات كـ سبونج بوب وبيبا بيغ وميراكولوس تبدو بريئة في ظاهرها ، لكنها تحمل رسائل تُربك الهوية ، وتُشوّه صورة الأسرة ، وتُطبّع مع سلوكيات غريبة عن مجتمعنا العربي والإسلامي ، بل وتُزعزع الثوابت الأخلاقية تحت عباءة “الطفولة” .

إن الأخطر من كل هذا أن هذه الشخصيات الكرتونية أصبحت قدوة . فالطفل اليوم قد يحتذي بـ“بطل رقمي” أكثر مما يحتذي بوالده أو معلمه، وهذه مفارقة لم يشهدها أي جيلٍ سابق .

هنا يظهر سؤال ضروري: كيف نحمي أبناءنا؟
المنع وحده لا يُثمر، والتهديد لا يغيّر ، والصراخ لا يبني وعيًا. الطريق الحقيقي هو “التحصين لا العزل” . علينا أن نُعد أبناءنا نفسيًا وفكريًا ليكونوا قادرين على التمييز، وأن نزرع فيهم التفكير النقدي، لا الخوف . كما نعلّمهم غسل أيديهم من الجراثيم ، يجب أن نعلّمهم غسل عقولهم من “الجراثيم الفكرية” التي تتسلل عبر الألوان والضحكات .

لقد أصبح بناء جيلٍ واعٍ مشروعًا تربويًا يحتاج إلى متابعة لا تنقطع . فالوطن لا ينهض فقط بجسورٍ تُشيَّد وعمائر تُرفع ، بل بنشءٍ يعرف كيف يستخدم التكنولوجيا ليصعد بها ، لا ليقع في هوّتها.

اجعلوا شعاركم اليوم:
“حصّن ابنك قبل أن تربيه الشاشة.”

فالباب الذي نتركه مفتوحًا بلا وعي، قد تجيء منه ريحٌ لا تبقي من أحلامنا إلا أطلالًا . فلنغلقه… لا بالخشب والمفاتيح، بل بالحب… وبالوعي… وبالحضور الحقيقي في حياة أبنائنا.

تعليقان

  1. المقال دا بختصر لينا الحال الحاصل الزمن اتغير والعيال بقت تربيتها جاية من الفون والألعاب والكرتون أكتر من البيت الحاجات دي بتزرع فيهم قيم وسلوكيات غريبة من غير ما نحس الكاتب. بقول إنو المنع ما بنفع ولا الصراخ الحل إننا نحصن أولادنا بالوعي والمتابعة ونقعد معاهم ونفهمم.
    عشان الباب العاوز يجيب الريح لازم نقفلو بالحب والوعي قبل يخرب علينا بيوتنا أحلامنا

  2. التربية الاعلامية النقدية هي تعليم الابناء على استخدام الوعي النقدي في فلترة المحتوى الذي يشاهدونه وتمييز رسائله ودوافعه مما يحولهم لمشاركين فاعلين لهم رأي وفكر بدل ان يكونوا مشاهدين سلبيين يستهلكون ما يشاهدونه دون وعي.. والتحدي هو جعل الامر ممتعا ومسليا لهم في مرحلة الطفولة وممارسة عادية في مرحلة المراهقة حتى يصبح طبيعة أصيلة متجذرة وجزء من كيانهم.. نجد ان غياب مثل هذه التربية تجعلهم شخصيات هشة ومهزوزة وسهلة الانقياد لتيارات الفكر المشوهة وعدم قادرين على التفريق بين الغث والسمين من المعاني .. فيصيبهم السم مع الدسم.
    مقال ممتاز ونرفع القبعات لكاتبه أن طرح مثل هذه القضية الهامة وبهذا الأسلوب السلس في زمن اصبحت فيه قيم العائلة مهملة.

اترك رد

error: Content is protected !!