
الانتباه هو تلك الطاقة الخفية التي تصوغ إدراك الإنسان للعالم. ليس مجرد تركيز عابر أو التفات بصري، بل فعل ذهني عميق يختار به العقل ما يستحق أن يدخل دائرة الوعي من بين آلاف المنبهات التي تحيط بنا في كل لحظة. إنه بوابة الإدراك ومحرّك الوعي، به نعيش ما نختاره، لا ما يحدث بالضرورة حولنا. فالعالم، مهما اتسع، يضيق إلى حجم ما ننتبه إليه فقط.
علميًا، يقوم الانتباه على منظومة عصبية متشابكة في الدماغ تعمل بتناغم مدهش. الفص الجبهي الأمامي يوجّه البوصلة الذهنية نحو الهدف، والفص الجداري يحدّد موضع ما نركّز عليه في الفضاء، بينما يتكفّل الجهاز الشبكي المنشّط في جذع الدماغ بإبقاء الوعي في حالة يقظة وتأهب. وتتعاون هذه المناطق مع النواقل العصبية مثل الدوبامين والنورأدرينالين لضبط إيقاع التركيز واستدامته. فالانتباه ليس لحظة قرار بسيطة، بل عملية معقدة تُوزّع فيها موارد الدماغ على ما يعتبره أكثر أهمية في اللحظة الراهنة.
أما نفسيًا، فإن الانتباه يعكس اهتمامات الإنسان ودوافعه. فهو يتأثر بالحاجة والعاطفة والمألوف والجديد. العاطفة، على سبيل المثال، تملك قدرة هائلة على خطف الانتباه، لأنها تمسّ مراكز البقاء في الدماغ. ولهذا يقال إن ما نحبه وما نخافه يسيطران على وعينا أكثر مما نختاره بإرادتنا. ومن هنا يمكن القول إن الانتباه ليس فقط اختيارًا معرفيًا، بل هو مرآة لمشاعرنا العميقة.
فلسفيًا، الانتباه هو فعل وجودي؛ هو اللحظة التي يُعيد فيها الوعي خلق العالم. ما لا ننتبه إليه لا يدخل عالمنا، حتى وإن كان أمام أعيننا. إننا لا نعيش في الواقع كما هو، بل في الجزء منه الذي نسلّط عليه ضوء وعينا. ولهذا، يرى بعض الفلاسفة أن الانتباه هو جوهر الوعي ذاته، وأن توجيهه نحو الخير أو الجمال أو الحقيقة هو الذي يمنح الحياة معناها. فالإنسان في جوهره هو ما ينتبه إليه.
في المقابل، يدرك الإعلام الحديث هذه الحقيقة الجوهرية، ويعمل على استثمارها بمهارة. فالمنافسة بين وسائل الإعلام ليست على المعلومات، بل على انتباه الجمهور. الإعلام يوجّه العدسات نحو ما يريد، ويترك ما يشاء في الظل. إنه لا ينقل الواقع بقدر ما يعيد تشكيله من خلال ما يختار تسليط الضوء عليه. يستخدم لذلك أدوات دقيقة: الانتقاء في عرض القضايا، الإطار الذي تُقدَّم فيه الأخبار، التكرار المستمر لترسيخ الأفكار، والإثارة العاطفية التي تجعل الخبر أكثر جذبًا. في عصر المنصات الرقمية، أصبحت الخوارزميات هي المحرّر الحقيقي، إذ تُغذّي كل مستخدم بما يشدّه أكثر، بصرف النظر عن القيمة أو العمق.
بهذه الآليات، يتمكن الإعلام من شد الانتباه أو تشتيته حسب الغرض. فهو قادر على تضخيم قضية حتى تبدو محور العالم، كما يستطيع إغراق الناس بسيل من المعلومات السطحية ليغيب عنهم الجوهر. يحدث التشتيت حين يُستهلك وعي الناس في التفاصيل والانفعالات، فينشغلون بالمشهد لا بالمعنى. إنها عملية دقيقة لإعادة توزيع الطاقة الذهنية للجماهير: ما يُعرض يترسخ، وما يُهمل يُمحى من الإدراك الجمعي.
ومن زاوية اجتماعية، أصبح الانتباه الجماعي نفسه ميدان الصراع الحديث. القوة اليوم لم تعد في السلاح، بل في من يملك القدرة على توجيه الوعي العام. من يتحكم في شاشات الناس، يتحكم في مشاعرهم ومواقفهم. ولذا صار الإعلام، في كثير من الأحيان، لا يفرض الحقيقة، بل يصنعها عبر ما يجعل الناس يرونه ويصدقونه. في هذا السياق، تتحول مهمة الإنسان من متلقٍ سلبي إلى مراقب واعٍ يسأل دوماً: من يقرر لي ما أراه؟ ومن يحدد أولوياتي؟
الحفاظ على الوعي في زمن الضوضاء الإعلامية يحتاج إلى انضباط ذهني وشجاعة فكرية. فالمطلوب ليس أن نغلق أعيننا عن الإعلام، بل أن نفتحها بوعي نقدي. أن نختار مصادرنا بعناية، ونمنح انتباهنا لما يضيف إلى فهمنا لا لما يستهلكه. أن نتدرّب على الصمت الداخلي، ونراجع دوافعنا قبل أن ننجرف وراء الإثارة. فالانتباه طاقة نادرة، ومن يبددها عبثًا يبدد ذاته.
إن سيادة الإنسان على انتباهه هي آخر معاقل حريته. فاحرس وعيك كما تحرس قلبك، ووجّه انتباهك إلى ما ينمّيك، لا إلى ما يستهلكك. لأن العالم الذي تراه ليس هو العالم كما هو، بل كما اخترت أنت أن تراه.




