الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

الاقتصاد الأزرق : فرص السودان الضائعة في البحر الأحمر ما بين التحديات والاستراتيجيات (1)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)

____________

مع تزايد الضغوط على الموارد التقليدية عالمياً، تصاعدت في السنوات الأخيرة أهمية المحيطات والبحار كمصادر للنمو والتنمية، يبرز الاقتصاد الأزرق بوصفه ركيزة استراتيجية لمستقبل الدول الساحلية، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط.
ويمتلك السودان ساحلًا طويلًا يبلغ أكثر من 750 كيلومتر على البحر الأحمر، وثروات بحرية هائلة، وموقعًا استراتيجيًا فريدًا. ومع ذلك، لا يزال حضوره في هذا المجال خجولًا ومتأخرًا، ما يجعله مثالًا صارخًا لـ(الفرصة الضائعة) في عصر الاقتصاد البحري.

ما هو الاقتصاد الأزرق؟

يمكن تعريف الاقتصاد الأزرق، بأنه( مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على المحيطات أوالبحار أوالموارد و الثروات البحرية، بهدف تحقيق التنمية المستدامة، مع الحفاظ على التوازن البيئي، وتحقيق منافع اجتماعية واقتصادية شاملة).
ويتضمن الاقتصاد الأزرق بشكل عام :
الصيد البحري وتربية الأحياء المائية النقل البحري والموانئ
السياحة الساحلية والبيئية الطاقة المتجددة البحرية
البحوث البيولوجية البحرية الصناعات البحرية (السفن، الإصلاح، المعدات)
الهوايات و الرياضات المائية الخدمات البحرية

تطبيقات ومظاهر الاقتصاد الأزرق في السودان

يمتلك السودان رصيدًا ضخمًا من المقومات الطبيعية والبشرية التي تؤهله للريادة في مجال الاقتصاد الأزرق، إلا أن الواقع العملي يُظهر أن هذه الإمكانيات لا تزال غير مستغلة بالشكل الأمثل، وتفتقر إلى إطار مؤسسي واستراتيجي واضح. وتتمثل أبرز مظاهر الاقتصاد الأزرق الممكنة في السودان في أربعة قطاعات رئيسية:

1) الثروة السمكية والأحياء البحرية

يُعد البحر الأحمر السوداني من أغنى المناطق البحرية بالثروات السمكية، بما في ذلك أنواع متعددة من الأسماك التجارية والجمبري والأحياء المائية ذات القيمة الاقتصادية العالية.
ورغم هذه الوفرة، فإن حجم الإنتاج الفعلي من الثروة البحرية لا يتجاوز نسبة 20–30% من الإمكانيات المقدرة، بسبب ضعف القدرات التقنية، وانعدام الاستثمار في أساطيل الصيد الحديثة، وغياب برامج الاستزراع السمكي البحري.
فضلا عن أن البنية التحتية لمراكز الإنزال السمكي، والتبريد، والتجهيز، والتصدير لا تزال بدائية أو شبه منعدمة، ما يحد من فرص تسويق المنتجات البحرية داخليًا وخارجيًا، ويضيع فرصًا ثمينة لخلق فرص عمل وتنمية المجتمعات الساحلية.

2) النقل البحري والموانئ

يمتد الساحل السوداني على طول يزيد عن 750 كيلومتر، ويضم عددًا من الموانئ المهمة مثل بورتسودان، وسواكن، وبشائر، بالاضافة الى موانيء مقترحة في أوسيف، ابوعمامة، وعقيق.
ورغم هذا التنوع، فإن ميناء بورتسودان يظل هو المنفذ الرئيسي – وربما الوحيد – النشط فعليًا و الى حدٍ ما ميناء سواكن، بالاضافة الى ميناء بشائر لصادر النفط، في حين ان بقية الموانئ لا تزال في طور التخطيط بانتظار حظها من الانشاء و الاكمال، ما يضعف القدرة التنافسية التجارية للسودان إقليميًا.
أما على صعيد النقل البحري، فقد شهد السودان انهيار خطوطه الملاحية البحرية الوطنية، ويفتقر حاليًا إلى أسطول تجاري وطني فاعل، الأمر الذي يجعل البلاد تعتمد بشكل شبه كامل على السفن الأجنبية في عمليات التصدير والاستيراد، مع محاولاتٍ خجولة للقطاع الخاص، ما يزيد من الكلفة ويقلص هامش السيادة الاقتصادية.

3) السياحة البحرية والبيئية

تتمتع السواحل السودانية بمواقع سياحية بحرية ذات طابع فريد، أهمها جزيرة سنقنيب (أول محمية بحرية مُعلنة في البحر الأحمر)، ومحمية دونقناب ذات الشعاب المرجانية البكر، والجزر الطبيعية الجذابة.
إلا أن هذه المواقع ظلت خارج خريطة السياحة العالمية بسبب غياب البنية التحتية اللازمة، كالفنادق، والمرافئ السياحية، ومراكز الغوص، والخدمات اللوجستية، إلى جانب ضعف التسويق الخارجي، وانعدام السياسات السياحية البحرية المتكاملة.
ويمثل هذا القطاع فرصة ذهبية غير مستغلة لتنويع الاقتصاد الوطني، وجذب العملات الأجنبية، وتنمية المجتمعات الساحلية من خلال السياحة البيئية المستدامة.

4) الطاقة المتجددة البحرية

يمتلك الساحل السوداني إمكانيات كبيرة لتوليد الطاقة الشمسية والرياح، خصوصًا في مناطق مثل طوكر وسواكن وحلايب، بالإضافة إلى وجود مواقع محتملة لطاقة المد والجزر، وهي مجالات تشكل ركيزة أساسية في مستقبل الطاقة النظيفة عالميًا.
لكن حتى الآن، لا توجد مشاريع قيد التنفيذ أو دراسات متقدمة للاستفادة من هذه المصادر، رغم أن العديد من دول الإقليم بدأت بالفعل في تطوير مشاريع الطاقة البحرية ضمن خططها للتحول إلى الاقتصاد الأخضر.

رغم التنوع والثراء في القطاعات البحرية التي يمكن أن تُشكّل نواة اقتصاد أزرق مزدهر في السودان، إلا أن غياب الرؤية المؤسسية، وتشتت الجهود، وندرة الاستثمار، حوّلت هذه المظاهر إلى فرص معطّلة، لا تزال تنتظر من يُفعّلها ضمن إطار استراتيجي وطني جامع.

آليات الاستغلال المستدام للموارد البحرية

إن تفعيل الاقتصاد الأزرق في السودان لا يمكن أن يتم بمعزل عن الاعتبارات البيئية والعدالة الاجتماعية، فالمطلوب ليس مجرد استغلال للموارد البحرية، بل توظيفها بما يضمن استدامتها للأجيال القادمة، ويحمي النظم البيئية الهشة، ويحقق تنمية شاملة للمجتمعات الساحلية.
ولتحقيق ذلك، لا بد من بناء منظومة متكاملة تعتمد على مجموعة من الآليات والتدخلات المحورية، أبرزها ما يلي:

1) وضع سياسات وطنية شاملة ومتكاملة للاقتصاد الأزرق:

يبدأ الاستغلال المستدام من صياغة رؤية استراتيجية وطنية واضحة المعالم، تُدرج الاقتصاد الأزرق ضمن أولويات التخطيط القومي، وتربطه بقطاعات مثل البيئة، الطاقة، التجارة، التعليم، والأمن البحري.
ينبغي أن تتضمن هذه الرؤية أهدافًا مرحلية وطويلة المدى، وإطارًا تشريعيًا ومؤسسيًا ملزمًا، مع آليات للتنسيق بين الجهات المعنية.

2) بناء شراكات متعددة الأطراف:

لن يتحقق النمو الأزرق في السودان دون شراكات قوية مع القطاع الخاص المحلي والدولي و كذلك شراكات حكومية دولية على اساس المصالح المشتركة، ومع المنظمات البحرية والبيئية، إضافة إلى إشراك المجتمعات الساحلية كأطراف فاعلة ومستفيدة في آنٍ واحد.
وهذه الشراكات يمكن أن تسهم في توفير التمويل، ونقل التكنولوجيا، وتحفيز الابتكار، وتوطين المشاريع في بيئتها المجتمعية.

3) تطوير الإطار القانوني والتنظيمي لحماية البيئة البحرية:

يتطلب الاستغلال المسؤول وجود منظومة قانونية صارمة تحمي البيئة البحرية، من خلال قوانين وتشريعات تجرّم الصيد الجائر، وتُقيّد الأنشطة الصناعية والسياحية الملوّثة، وتُحدد مناطق الحماية والمحميات البحرية.
كما ينبغي تحديث السياسات الملاحية والتجارية بما يتوافق مع المعايير الدولية لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS).

4) الاستثمار في تنمية القدرات البشرية المتخصصة:

الاقتصاد الأزرق لا يقوم فقط على الموارد، بل على العقول والخبرات التي تديرها وتطورها.
لذا، فإن السودان بحاجة إلى برامج متقدمة لتأهيل الكوادر الوطنية في مجالات مثل علوم البحار، الأحياء المائية، الاقتصاد البحري، والهندسة الساحلية.
كما يجب دعم الجامعات والمعاهد الفنية لإنشاء أقسام متخصصة، وتحفيز البحوث التطبيقية المرتبطة بالبحر.

5) استخدام التكنولوجيا والرقمنة في الإنتاج والمراقبة:

تشكل التكنولوجيا حجر الزاوية في الاستغلال المستدام، سواء في مراقبة المصائد البحرية عبر الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار، أو في تحسين الإنتاج والاستزراع البحري، أو في تقديم خدمات لوجستية رقمية ذكية.
كما يمكن أن تلعب المنصات الرقمية دورًا مهمًا في التسويق، والتعليم، وإدارة سلاسل القيمة البحرية بكفاءة وشفافية.

الانتقال إلى اقتصاد أزرق سوداني مستدام لا يتطلب موارد جديدة، بل إعادة هندسة العلاقة بين الإنسان والبحر على أسس العلم والتخطيط والشراكة والمسؤولية البيئية.
وما لم تُفعّل هذه الآليات في إطار وطني شامل، ستظل موارد البحر الأحمر السوداني ثروة نائمة تتآكل بصمت.

التحديات الاستراتيجية

يواجه السودان عددًا من التحديات المعقدة والمتداخلة التي تعرقل تطوير اقتصاد أزرق فعّال ومستدام، ويمكن تصنيفها إلى الآتي :

1) التحديات الأمنية:
يعاني السودان من ضعف كبير في قدراته البحرية، سواء من حيث البنية التحتية أو الرقابة أو التغطية العملياتية، ما يفتح المجال أمام أنشطة التهريب غير المشروع، والتسلل، والصيد الجائر، إضافة إلى مخاطر محتملة من القرصنة والتهديدات غير التقليدية في البحر الأحمر، دون وجود منظومة فعالة للردع أو المراقبة.

2) التحديات السياسية:
غياب الإرادة السياسية الواضحة، وتقلب السياسات الوطنية المتعلقة بالبحر والساحل، وافتقار السودان لتمثيل قوي ومبادر في المبادرات الإقليمية الخاصة بالبحر الأحمر، كلها عوامل أضعفت حضوره البحري والاستثماري، وأفقدته فرصًا حيوية للتموضع كفاعل استراتيجي في الإقليم.

3) التحديات الاقتصادية:
يعاني قطاع البحر من نقص حاد في التمويل، وضعف الاستثمارات المحلية والأجنبية، بالإضافة إلى تآكل البنية التحتية للموانئ، والمرافق اللوجستية، وانعدام الحوافز الجاذبة لرأس المال الخاص والعام، وهو ما أدى إلى تعطيل المشاريع المحتملة في مجالات الصيد والنقل والطاقة والسياحة.

4) التحديات الاجتماعية:
تشهد المجتمعات الساحلية في شرق السودان تهميشًا واضحًا، وارتفاعًا في معدلات البطالة، وقلة في فرص التعليم والتدريب المرتبطة بالاقتصاد الأزرق، مما يُضعف من قدراتها على الانخراط في مشاريع تنموية أو الحفاظ على بيئتها البحرية، ويكرّس الفقر والاعتماد على المساعدات.

5) التحديات البيئية:
تعاني البيئة البحرية السودانية من تهديدات متزايدة نتيجة الصيد الجائر، والتلوث الناتج عن الأنشطة الساحلية العشوائية، وغياب الأطر الرقابية البيئية، فضلًا عن غياب مراكز الأبحاث والدراسات البحرية التي يمكن أن ترصد هذه التهديدات وتقدم حلولًا علمية ومستدامة.

إن جملة هذه التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تضع السودان أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن يظل البحر الأحمر مجرد ساحة للفرص الضائعة، أو أن يتحول إلى رافعة استراتيجية للتنمية المستدامة. غير أن إدراك التحديات وحده لا يكفي، إذ تبرز أهمية الانتقال من التشخيص إلى البحث عن الحلول الممكنة، ورصد الفرص التي لا تزال متاحة، وصياغة استراتيجيات واقعية لاستدراك ما فات. وهذا ما سنحاول التوقف عنده في الجزء الثاني من هذا المقال، عبر استعراض الفرص الضائعة وإمكانيات استردادها، ثم رسم خارطة طريق نحو اقتصاد أزرق سوداني قادر على المنافسة الإقليمية والدولية.

الأربعاء 20 أغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!