ها هو ذا سوداننا يناهز السبعين من عمر استقلاله الأخير عن ربقة الاستعمار الثنائي البريطاني المصري ولا يزال يتطلع إلى الاستقرار والسلام والتنمية المستدامين والتكامل والاندماج القومي وتجاوز مشكلات نظم وكيفيات الحكم بين مركزية قابضة وفدرالية رخوة وانقطاع حلقات التداول السلمي للسلطة أو غيابها تحت ظلال صراع معبر عنه بين المركز والهامش وأزمة هوية جلها إدعاء وبعضها مصطنع، وإن كانت هذه بعض العلات المزمنة للوطن وشعبه ؛فإن المصل الأوحد الذي يقوي جهاز المناعة ضد هذه الأمراض ويعمل على مقاومتها واستعجال التعافي منها هو الوطنية وحب الوطن .
لعل حب الوطن من المعلوم بالضرورة ومن البدهيات ،فكل إنسان يرتبط ببلده ودولته التي ينتمي إليها حيث مسقط رأسه ومرتع صباه ومستودع ذكرياته وأرض آبائه وأجداده ،وهويته التي يصنف بها بين الشعوب والأمم ،ولا يشعر الإنسان بالطمأنينة والارتياح النفسي إلا وهو في موطنه وبين أصدقائه وزملائه ومعارفه وأهله ،والرابط الوجداني بين الإنسان ووطنه رابط فطري يصعب الفكاك منه ؛ويكفي أن نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قد قال وهو يودع مكة مهاجراً منها (ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي ،ولولا قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) ؛وقد ربط الله عز وجل في القرآن الكريم في سورة النساء بين قتل الإنسان لنفسه والخروج من وطنه ابتلاء واختبارا ﴿وَلَو أَنّا كَتَبنا عَلَيهِم أَنِ اقتُلوا أَنفُسَكُم أَوِ اخرُجوا مِن دِيارِكُم ما فَعَلوهُ إِلّا قَليلٌ مِنهُم وَلَو أَنَّهُم فَعَلوا ما يوعَظونَ بِهِ لَكانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبيتًا﴾.
إن الذي يعنينا ونحن نحتفل شكليا بذكرى الاستقلال منذ أكثر من ستين عاماً هو أن تجد مظاهر الاحتفال هذه موضعها ليس في جدول أعمالنا أو تزيين منازلنا وسياراتنا بعلم السودان أو التغني ببعض الأناشيد الوطنية مع أن كل ذلك مطلوب ؛بيد أن الأكثر أهمية هو مكانة الوطن في قلوبنا وحبنا له وتجردنا لأجله لدرجة ينعكس فيها ذلك الحب سلوكاً وطنياً نعبر عنه بأفعالنا قبل أقوالنا ؛لا نرتضي لوطننا الضيم ولا الأذى ولا نسومه الإذلال ولا نرهن إرادتنا لأعدائه ولا نتخذ من التشدق باسمه أو تبني قضاياه سلعة نبيعها في مزاد العمالة ومناصرة الأجنبي ؛ولا ندمر أو ندنس شبراً منه مهما اختلفنا فيه ؛فالوطن هو منزلنا وبيتنا ومأوانا وسلوانا ونجوانا ومهما اختلفنا في منزل الأسرة الكبيرة يجب ألا نتعامل معه بنظرية هدم المعبد على الجميع أو بالمقولة الشعبية الفاسدة (دار أبوك إن خربت شيل ليك منها ….)
حاشية :
إن كان في محنة الحرب من منح فأولها تنامي الشعور بالحس الوطني، وتكفي هبة أبناء الوطن للدفاع عنه تطوعا في صفوف المقاومة الشعبية والمجاهدين إلى جانب إخوانهم في القوات النظامية مقدمين جميعهم أرواحهم فداء للوطن ؛ونطمع في أن تنعكس هذه الروح الوطنية في الشعب سلما وحربا ؛ليصبح الانتماء للوطن والولاء له متكاملا لكل أجزائه لا يتوقف عند منطقة أو قبيلة أو إقليم أو جهة ليتحول إلى عصبية قبلية أو اثنية أو جهوية أو مناطقية تنهش في جسد الوطن ؛حب به تنأى النفس عن تدمير بنيات الوطن التحتية مثلما تفعل المليشيا الآن لمحو تاريخه ومصادرة مستقبله ؛بل يجب أن يمتنع الجميع عن حمل السلاح وسيلة للتعبير مهما كانت المظالم فالعاقبة أسوأ وعلينا تجنبها حتى لا نخرب وطننا بأيدينا، وليس مقبولاً أن تخرج بعد اليوم أي حركة مسلحة للاحتجاج ويكفيها ما عبرت عنه الحركات المسلحة في كل أرجاء البلاد وليكن التوجه نحو الحلول بتراضي وقبول للآخر تحت مظلة حب الوطن وحب الخير له ؛وليدرك الجميع أننا لن نتقدم إلا متحدين متحابين لا تحمل بيننا فئة حقداً ضد فئة .
نحتاج بعد درس الوطنية الذي قدمته لنا الحرب حين فقد الكثيرون منا الموطن والمأوى فتشردوا وغادر بعضنا السودان لاجئين عرفوا قيمة الوطن ؛نحتاج مراجعة طرائق التنشئة الاجتماعية ومناهج التربية الوطنية في المدارس والمظان الثقافية لنجعل من مجرد الإساءة إلى الوطن بكلمة جريمة وجناية كبرى تستوجب العقاب المغلظ مهما اختلفنا سياسياً وألا يكون الوطن ملعونا في أدبيات بعض الأحزاب السياسية تحت ستار المعارضة مثلما تغنى بعضهم بلعنه شعرا من قبل .
كل عام والسودان وشعبه بخير ؛وعجل الله النصر لجيشنا وبلادنا وأعاد النازحين واللاجئين إلى مواطنهم معززين مكرمين .