قضايا وتقارير وحوارات

الإسلاميون في السودان: لم تعثروا وكيف ينهضون ( 6 – 6 )

الدكتور الدرديري محمد أحمد

(حزب ما بعد الترابي)

روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنه عندما توفي النبي ﷺ أقبل أبو بكر الصّديق رضي الله عنه ودخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل حُجرة عائشة. فتيَمّم رسول الله ﷺ وكان قد سُجّي ببُردٍ حِبَرةٍ. فكَشف عن وجهه ﷺ ثم أكبَّ عليه وقبّله وبكى. وقال: “والذي بعثك بالحقِّ، أما الموتةَ التي كُتبت عليك فقد مِتّها، ولن يجمع اللهُ عليك بين موتتين”. 

وقال ابن عباس رضي الله عنه إن الصّديق خرج من حجرة عائشة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يُكلّم الناس في المسجد ويقول: إنَّ الرسول لم يمت. وسوف يفعل ويفعل… فقال الصديق: “اجلس”، فأبى عمر. فقال: “اجلس”، فأبى. فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه الناسُ، وتركوا عمر. فقال: “أما بعد، فمَن كان منكم يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنَّالله حيٌّ لا يموت. قال الله تعالى “وَمَا مُحَمَّدٌ  إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ“. فوالله لكأنَّ الناس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزل الآيةَ حتى تلاها أبو بكر. فتلقَّاها منه الناس، فما يُسمعُ بشر إلا يتلوها.

وأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرتُ حتى ما تقلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.

“بتصرف من صحيح البخاري (كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته)، والطبري (تاريخ الرسل والملوك)، وتفسير ابن كثير”.

                                                            **************************

ان “حزب الترابي” هو التيار الذي ساد المشهد الإسلامي السوداني على مدى الأعوام الستين الممتدة من 1964 وحتى 2024. وبالرغم من أن ذلك التيار قد تفرق لأحزاب وكيانات فان فصائله المختلفة لا تزال تبني على ذات الفكرة التي قال بها الدكتور حسن الترابي في تجديد الدين وضبط الحياة العامة به. وما انفكت تتخذ لذلك من الهياكل التنظيمية قياسا على ما طوره الترابي من أنماط. أخطأ ذلك التيار حيث أخطأ، وأصاب حيث أصاب. فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئٍ ما نوى. 

غير أن سنن الله الماضية، هي أنه لابد من طي تلك الصفحة، بمرئياتها الفكرية وتراثها التنظيمي، وفتح صفحة جديدة لزمان جديد وجيل جديد وتحديات جديدة. فهذا هو مقتضى النَقل، وهو مقتضى العَقل. هذه الصفحة الجديدة هي ما نسميه هنا – مجازا – “حزب ما بعد الترابي”. ونتقدم فيما يلي بمقاربة متواضعة بشأنه آملين أن تهتدي بتصويبات الآخرين وتتقوى بإضافاتهم. ونبني المقاربة على رصد أوجه الاختلاف بين ما كان عليه “حزب الترابي” وما ينبغي أن يكون عليه “حزب ما بعد الترابي” في المسائل الثلاث الرئيسة التالية: الهدف، البناء التنظيمي، والنهج الفكري.  

قلنا في الحلقة الأولى من هذا المقال إن الإسلاميين السودانيين صاروا إسلاميين لهدف. وان ذلك كان هو أن تلتزم الدولة دين الأمة وقيم المجتمع كما كان عليه الحال قبل قدوم المستعمر. بعد قيام الإنقاذ أصاب الإسلاميون نجاحا مقدرا في تحقيق ذلك الهدف، فكسبوا الصراع مع العلمانيين في جانبيهالسياسي والاجتماعي، على النحو الذي بسطناه في الحلقة الخامسة. فلما رأى العلمانيون ذلك، كرِهوا أن يشاركوا في الانتخابات طوال حكم الإنقاذ”حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”؛ وخوفاً من أن يكسَب الإسلاميون الانتخابات فيضطرون – ويضطر الغرب معهم – للتسليم بنتيجتها. فلم يشاركوا إلا في الانتخابات التي سبقت استفتاء جنوب السودان ولأغراض إسباغ المشروعية على ذلك الاستفتاء. 

بعد سقوط الإنقاذ طمِع العلمانيون في استعادة العلمانية كاملة، كهيئتها عند فجر الاستقلال أو أشد. فعمدوا الى تعلِيَة السقف. فبعد أن كانت ذريعتهم للامتناع عن المشاركة في الانتخابات في عهد الإنقاذ هي عدم ضمان نزاهتهافي ظل سيطرة الإسلاميين، ائتمروا مع القوى الغربية ودولة الإمارات واشترطوا لإجراء الانتخابات أن يكتمل -أثناء الفترة الانتقالية – إنجاز الفصل بين الدين والدولة على المستوى السياسي، وتبني المنظومة القيمية الليبرالية على المستوى الاجتماعي. وحيث أن السبيل لذلك هو إقصاء أقوى فصائل الإسلاميين-كمرحلة أولى – فقد صدر في 29 نوفمبر 2019 قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو الذي بموجبه تم حل حزب المؤتمر الوطني ومصادرة أصوله دون حكم قضائي. وبعد تولِّيه منصب رئيس البعثة الأممية (يونيتامس) أقر فولكر بيرتس ذلك الإجراء المخالف للقانون الدولي لحقوق الانسان معلناً في 17 يونيو 2022 أنه “لا نية للبعثة بالتحدث مع الإسلاميين من الأحزاب المحظورة أو إشراكهم في الحوار”. بسبب ذلك صار شائعا الحديث عن “توافق واسع على عدم إشراك المؤتمر الوطني في الفترة الانتقالية”، وصارت عبارة “إلا المؤتمر الوطني” من المألوف في السياسة السودانية. وكان الراجح أن ذلك سيؤدي في النهاية الى منع المؤتمر الوطني وطائفة من الأحزاب والشخصيات – التي يرونها واجهات له او مرتبطة به – من المشاركة في الانتخابات. كانت تلك هي التعلية الأولى للسقف. بعدها علّوا السقف مرتين. مرةً قبل الحرب. ومرة أخرى بعد اندلاعها. ونُفصِّل أدناه في هاتين التعليتين.  

في 3 سبتمبر 2020 وقّع عبد الله حمدوك وهو في المنصب اتفاقا مع عبد العزيز الحلو في أديس أبابا، نص على فصل الدين عن الدولة. وجاء فيه إنه “في غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير”. وفي اليوم التالي للاتفاق أبرم حمدوك والحلو اعلانا مشتركا يشترط لذلك الاتفاق “المصادقة عليه من قبل المؤسسات المعنية”، أي السلطة التشريعية الانتقالية. كان اتفاق أديس أبابا برعاية دولية معلنة. إذ حضر التوقيع ديفيد بيزلي مدير برنامج الغذاء العالمي، السياسي الأمريكي الجمهوري ذو التوجهات المثيرة للجدل. في 28 مارس 2021 عزّز حمدوك والحلو اتفاق أديس أبابا باتفاق آخر أبرماه في جوبا، سمي “إعلان المبادئ” نص على أنه “يجب أن تكون الدولة السودانية دولة مدنية ديمقراطية فدرالية، يتم فيها فصل الدين عن الدولة، لضمان عدم استخدام الدين في السياسة”. تلك كانت -في مجملها – هي التعلية الثانية للسقف. 

بعد أكثر من سنة على نشوب الحرب، وتحديدا في 18 مايو 2024، وقّع حمدوك، بصفته رئيس تنسيقية “تقدم”، اتفاقا مع الحلو وعبد الواحد نور – كلٌّعلى حدة – ما سُمي “إعلان نيروبي”. كذلك نص هذا الاتفاق على تأسيس دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة وعلى “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير، في حالة عدم تضمين المبادئ الواردة في الإعلان في الدستور الدائم”. أيضا لم يكن الراعي الدولي غائبا، ومثّله هذه المرة الرئيس الكيني وليام روتو. إلا أن الفرق بين إعلان نيروبي وبين اتفاق أديس أبابا كان كبيرا. فبينما كان قُصارى ما اُشترط لاتفاق أديس أبابا هو مصادقة المؤسسات الانتقالية عليه، فإن إعلان نيروبي شدّد على أن يُضمّن فصل الدين عن الدولة في الدستور الدائم للبلاد. وهكذا بعد أن كان للشعب السوداني أن يقول كلمته في نهاية الفترة الانتقالية، فيما إذا كان يركَن للعلمانية أم يصُدُّ عنها، فإنه لم يعد له ذلك بعد الحرب. إذ جُعلت العلمانية مبدأً فوق الدستور super-constitutional ليس للشعب فيه رأي، ولا يجوز نقضه أو الانتقاص منه ولو باستفتاء. تلك أول مرة يسمع فيها السودانيون تعبير “المبادئ فوق الدستورية”. وكان ذلك المصطلح قد أُطلق على عشرة مبادئ، أعلن عنها عبد العزيز الحلو في كتيب صدر عام 2021، أولها العلمانية وثانيها حق تقرير المصير. بل هناك شرط آخر ضمني يفترضه إعلان نيروبي. وهو أن تعود تنسيقية “تقدم” للحياة السياسية، إذ لا علمانية أو ليبرالية بدونها. وأن يعود الدعم السريع للمؤسسة العسكرية، اذ من غيره يحمي “تقدم” وليبراليتها. هذه هي التعلية الثالثة والتي غَيرت جذريا من قواعد اللعبة السياسية في السودان.  

قبل الحرب كان موضوع فصل الدين عن الدولة نزاعاً طرفاه الإسلاميون والعلمانيون. وكان الشعب فيه هو الحَكَم الذي يقول كلمته النهائية في الانتخابات. أما بعد الحرب فقد صار الشعب طرفا في الصراع. اذ صار هدف الصراع هو إلزام الشعب أن يمتثل لتضمين العلمانية في الدستور الدائم دون انتخابات أو استفتاء. بل لا بد للشعب السوداني من أن يقبل عودة حراس المعبد للمشهدين السياسي والعسكري. وهكذا استعدى العلمانيون الشعب بكل أطيافه وجعلوه خصما وساقوه سوقا الى حَلَبة المواجهة الشاملة حول الأطروحة الليبرالية العلمانية. تلك الأطروحة التي لم يعد يتبناها – وفقا للنسخة الأخيرة منها وبحسب آخر تحديث لها في التعلية الثالثة – إلا الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، وعبد العزيز الحلو، وعبد الواحد نور.  

اذن فان الهدف الذي كان من أجله الإسلاميون إسلاميين في زمان “حزب الترابي” لم يعد قائما اليوم. فإذا كان “حزب الترابي” يسعى لتمكين الدين فيمجتمعٍ كانت مشكلته هي “الجهل بشمول الدين، والغفلة عن مقتضاه السياسي” فإنه – بعد ثلاثين سنة من حكم الإسلاميين – لم تعد تلك المشكلة قائمة. إذ أن الدين قد “تمكن” في المجتمع وشاع العِلم بشموله وبمضمونه السياسي. هذا هو السبب الذي جعل العلمانيين يستنصرون بالأجنبي. وهو السبب الذي جعلهم -في البداية – يتهربون من اجراء الانتخابات بحجة انها تجرى في ظل الإسلاميين، ثم يقولون – في النهاية – إن شرط إجرائها هو إقرار مبادئ فوق الدستور لا تخضع حتى لاستفتاء الشعب عليها. وهو السبب الذي جعلهم يبتزون السودانيين بفصل أجزاء عزيزة من بلادهم إن هم رفضوا العلمانية. وهكذا بعد أن كان شأن الدين مما تتصدى فيه للعلمانيين الجماعات الطلابية والحركات والأحزاب الإسلامية، فانه اليوم شأن المجتمع كله ينهض له مُجمِعاً ويضرب ضربةَ مُفردِ!  وينقلنا هذا للحديث عن التنظيم. 

ان من يواجه دعاة العلمانية اليوم هم كل من له مَوجِدة ضد الدعم السريع؛ في زمان ليس فيه من أحد في الشعب السوداني إلا وله هذه المَوجدة. وإن من يواجه دعاة الليبرالية اليوم هو كل من يرفض عودة تنسيقية “تقدم” وظهيرها الدولي وتحكّمهم من جديد في رقاب الناس ومصائر البلاد. والشعب كله يرفض عودة هؤلاء. فهل بعد ذلك، يحتاج الإسلاميون الى التمايز كإسلاميين! وهل يحتاجون لأن يؤطِّروا أنفسهم في حزب إسلامي يقول بدعوة ينبري لها عامة الناس خارجه! أم إنه ينبغي أن يتركوا أمر هذه الدعوة لهذه “الظاهرة الجماهيرية”، التي هم بعضاً منها. وهل إن الظهير الدولي سيَغتمّ إن هم برزوا له للقتال؛ أم إنه سيتلمظ سروراً بذلكـ، فيعزلهم عن عمقهم الشعبي، ويستفرد بهم، ويستهدفهم بما لا قِبَل لهم به، ويستأصل شأفتهم!  

إذا كان الترابي يخشى “ألا يتواكب تطور أوعية التنظيم مع توسع مدى التيار الإسلامي، فيتحول أمر الصحوة الى ظاهرة جماهيرية سائبة”، فإنما ذلك لأنه كان في مقدور الأوعية الحزبية والحركية ان تساير المد الإسلامي إن هي اتسعت. أما في هذا الزمان فإنه لم يعد بوسع أي تشكيلات تنظيمية أن تواكب الظاهرة الجماهيرية التي تكونت بعد الحرب. وإذا ما كان الناس في زمان الترابي يخشون من أن تتناسخ الصحوة الإسلامية أو تتبدد إن لم يُحاط بها، فإن هذه الحرب التي كان شعارُها محاربة “الفلول والكيزان” قد أنضجت الفكرة الإسلامية في المجتمع وجعلت منها ظاهرة جماهيرية وطنية لا يُخشى بعد اليوم أن تضل أو تتبدد. وإذا كان الترابي – في أواسط القرن العشرين –يرنو الى أن “نكون نحن حركة المجتمع ذاته، ندخل في سياقه، ونقاوم ما فيه من شر، ونبني على ما فيه من خير”، فإنه آن الأوان – ونحن في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين – أن نكون بعضاً من ذلك المثال. فنعمد الى الراية التي يرفعها المجتمع فننصبها هي ونلوح بها هي. فالإسلام اليوم ليس بحاجة الى راية متمايزة عن راية المجتمع. ورايته هي الراية التي يعليها الكافة إلا من أبى. بهذا يضحي الإسلاميون الحزب الذي يدخل في سياق المجتمع، بدلا من أن يجانبه. الحزب الذي يبني على ما في المجتمع من خير كثير ويقاوم ما بقي فيه من شر قليل. فان “حزب ما بعد الترابي” لا ينبغي إلا أن يكون كيانا جامعا لكل السودانيين. فتدخل فيه أغلب ألوان التيار الإسلامي دون تفاضل. وتؤمُهأكثر الأطياف الوطنية الأخرى دون تردد. ويقصده من ينهض اليوم ضد اتفاقات حمدوك والحلو وعبد الواحد نور، حتى لو كان بالأمس القريب من ربابنة الليبرالية وأساطين العلمانية. ويفتح أبوابه لمن يعمل لهزيمة الدعم السريع ويسعى لمنع عودة “تقدم”. ويأتيه المسيحيون ممن عانوا من تدنيس المليشيا كنائسهم ومقدساتهم ومِن انتهاكها حرماتهم واعتدائها على شخوصهم ودورهم وممتلكاتهم؛ شأن السودانيين كلهم. فهو حزب الكافة الذي لا يغلق بابه دون أحد بسبب دينه، وليست له لافتة تصنفه ضمن تيار عقائدي او سياسي. وان كان مرجواً من السعة في فكرة “حزب ما بعد الترابي” ومن انفتاحه على مكونات المجتمع كلها ان تجعل منه الحزب الغالب، الا أنه ليس مقصوداً منه ان يكون الحزب الواحد. فلندع مئة زهرة تتفتح، ولندع مئة مدرسة تتنافس، ولندع مئة حزب يزدهر. هذا ما يقال عن التنظيم.

أما عن النهج الفكري، وحتى لا نطيل، دعونا نتفق مع ما ذهب اليه الشنقيطي من “ان سر الطرافة والجدة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان هو ارتباط الفكر بالعمل، وهو أمر صبغ نتاج الحركة كله. وقد جمع قادة الحركة ومفكروها بين العمق الفكري والروح العملية، وأدركوا قيمة الارتباط بينهما: حيث يهدي الفكر العمل، ويهدي العمل الفكر”. هذا ما كان عليه الترابي في “القديم”. ونشير هنا بالقديم الى فقه الترابي ومدرسته قبل الإنقاذ. و”بالجديد” الى فقهه بعدها.

ومصطلحا “القديم” و”الجديد” استعارة من فقه الامام الشافعي. ولا بأس هنا من استطراد قصير. ففي فقه الشافعي يُطلق المصطلحان على مرحلتين مختلفتين من آرائه نتجتا عن انتقاله من العراق إلى مصر. فالقديم يشير إلى الآراء الفقهية التي أصدرها الإمام الشافعي أثناء وجوده في العراق متأثراببيئة العراق، والتي كانت غنية بمدارس الرأي مثل مدرسة الإمام أبي حنيفة. وقد جمع الشافعي آراءه في القديم في كتابه “الحجة”. أما الجديد فيشير إلى الآراء الفقهية التي قال بها الإمام الشافعي في مصر متأثرا بالبيئة الجديدة التي شكلتها مدرسة الحديث وفقه الإمام مالك. وقد جمع الشافعي هذه الآراء في كتابه “الأم”. ومن أمثلة هذا الاختلاف: في القديم لا يقرأالمأموم، وفي الجديد يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية. وفي القديم: يكون اخراج الزكاة بالقيمة، وفي الجديد يكون إخراجها من قوت غالب أهل البلد. عند اتْباع الشافعي يُعتبر الجديد في مجمله ناسخًا للقديم، لكنهم أحيانا يتمسكون بالقديم إذا رأوا قوة دليله. قياسا على هذا، أرى أن فقه الترابي وفكره السياسي يتمايز بين قديم سابق للإنقاذ وجديد تالٍ لها. ورفعا للجدال أرشح موضوع القديم والجديد في فقه الترابي وفكرِه لطلاب الدكتوراة في الفكر السياسي. ونعود لموضوعنا. 

ان النهج الذي اختطه الترابي في “القديم” كان خاليا من الأيدولوجية ذات الانساق الراتبة التي تبدت لاحقا في “الجديد”. ويتسم “القديم” بربط الفكر بالعمل، بدلا من أن يربط العمل برؤية طوباوية طويلة المدى. وقد تعرضنا لأطرافٍ من ذلك في الحلقة الثانية. هذا هو ميراث “القديم” الذي نرى انه على “حزب ما بعد الترابي” أن يعضِ عليه بالنواجذ. فلا خير في فكر أيديولوجيجامد، أو استراتيجيات عشرية وعشرينية وثلاثينية تنشر في ورق مصقول ثم تهمل ويعلوها الغبار، كونه لا علاقة لها بالواقع ومتغيراته. وربما ليس ذلك من الدين في شيء، ولا أظنه مما يصلح دنيا الناس في شيء.

ثم أن ميراث الترابي في “القديم” لا ينبغي أن يكون وحده الذي يهدي المسير. فالتحديات الجديدة التي يواجهها “حزب ما بعد الترابي” تحتاج أفكارا جديدة وقادة جددا للتصدي لها. بل ذلك بعض ما أراده الترابي من التجديد، وبعض ما قصد اليه في “القديم”. فإن “حزب ما بعد الترابي” لا ينهض على فكر الترابي وحده؛ ولو كان ذلك جماع فكره في “القديم”. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “أعقَل الناس من جمع عقول الناس الى عقله”. 

إذا جعلت هذه التعليات الإسلاميين يُقبِلون على الوطنيين، فما الذي يدفع الوطنيين للإقبال على “حزب ما بعد الترابي”. السبب الأول هو الذي أوضحناه أعلاه من أن المواجهة مع العلمانيين لم تعد قاصرة على الإسلاميين. فالوطنيون – شاءوا أم أبوا – في الصف الأول من هذه الملحمة يواجهون أطروحة الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، والحلو، وعبد الواحد نور. إضافة الى هذا العامل المحلي، هناك عامل خارجي لابد من أن يضعه الوطنيون والإسلاميون معاً في اعتبارهم؛ ألا وهو العامل الإسرائيلي! ونفصل فيه أدناه. 

في عام 1995 كتب نتانياهو كتاباً سمّاه “محاربة الإرهاب: كيف تَهزم الديمقراطيات الإرهابيين المحليين والدوليين”. هذا الكتاب لنتنياهو بمثابة كتاب “كفاحي” لهتلر. وتتلخص فكرته في أن إسرائيل لن تتخلى عن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 – رغم أنف القانون الدولي – وذلك لسببين: الأول نبوءة توراتية، والثاني لأن أمن إسرائيل يتطلب ذلك. وحيث ان عدم التخلي عن هذه الأراضي يستعدي حماس “والمنظمات الإرهابية الأخرى”، فإنه لابد من التصدي لها وهزيمتها. وحتى يتأتى ذلك فانه لا تكفي مواجهة “الإرهابيين” وإنما أيضا لابد من مناوأة الدول السبع المناهضة لإسرائيل والتي هي -بحسب نتنياهو – إيران والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال. ويكون ذلك بإشعال الحروب ونشر الفوضى واضعاف سلطة الدولة، ثم يوكل أمر الحكم في هذه الدول لمن يوالون الغرب ويُوادّون إسرائيل. وكشف جيفري ساكس – البروفيسور المشهور في الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كولومبيا، مستشار الأمين العام للأمم المتحدة – انه منذ العام1997 تبنى البنتاغون استراتيجية اذكاء الحروب في هذه الدول السبع. وهكذا نعلم لماذا يكون الراعي الدولي حاضرا كل مرة تتم فيها تعلية السقف؛ فهو إنما يكون حاضرا لضمان دور لربائب الغرب في المرحلة التي تلي الحرب. 

يظن البعض ان الموقف الإسرائيلي المعادي للسودان انما كان بسبب الإنقاذ، وتحديدا بسبب المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في 1991. ومن ثم فإن إسرائيل – وبحسب هؤلاء – ستعدِل عن معاداة السودان ما دامت الإنقاذ قد ذهبت، خاصة إذا غاب الإسلاميون عن المشهد، ووقع السودان الاتفاقات الإبراهيمية. غير ان هذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالموقف الإسرائيلي من السودان سابق لحكم الإسلاميين، وسابق للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي؛ الذي لا يعدو أن يكون هامشا صغيرا footnote في هذا الصدد. فسبب الموقف الإسرائيلي هو الارتباط العضوي التاريخي بين القوات المسلحة السودانية والجيش المصري. وسببه هو مساندة الرأي العام السوداني العنيدة للقضية الفلسطينية؛ مما تتشاركه تقليديا جماهير وقيادات كل الأحزاب السودانية الكبرى. 

فقد شاركت القوات المسلحة السودانية في الحروب العربية الاربعة ضد اسرائيل. كانت المشاركة الأولى قبل استقلال السودان حين قاتلت قوات دفاع السودان تحت قيادة الجيش المصري في حرب عام 1948 (النكبة). والثانية في 1967 (النكسة)، والثالثة في 1968– 1970 (حرب الاستنزاف)، والرابعة في 1973 (حرب أكتوبر). فليس هناك جيش عربي قاتل إسرائيل لهذا العدد من المرات الا الجيش المصري. وليس هناك جيش عربي شارك في القتال المباشر ضد إسرائيل إلا ودُمِّر (سوريا) او أُبرمت معه اتفاقية سلام (مصر والأردن).اللهم إلا الجيش السوداني. 

أما شواهد وقوف الرأي العام السوداني -حكاما ومحكومين – باعتداد لجانب القضية الفلسطينية فأولها وأشهرها استضافة الخرطوم في 29 أغسطس 1967 أهم قمة في التاريخ العربي الحديث، قمة اللاءات الثلاث، التي جاءت لتوحيد الصف العربي بعد النكسة. ورغم الانكسار العربي الراهن لا يزال السودانيون يعتبرون تلك القمة تاج فخارهم ومصدر اعتزازهم. وثانيها، وهو أقل شهرة، ما حدث قبيل تلك القمة؛ حين أصدرت الجمعية التأسيسية – بالإجماع– إعلان الحرب على إسرائيل. لا يزال إعلان السودان الحرب على إسرائيلساريا حتى اليوم. وإذا ما وقّع السودان الاتفاقات الإبراهيمية فإن إسرائيل ستطالب – امعانا في الإذلال – بإلغاء ذلك الإعلان بواسطة أول برلمانسوداني ينتخب. وستضع على المحك إباء الشعب السوداني، وكبرياء برلمانه المنتخب. 

على مدى العقود الستة الماضية، كان هذا العامل الإسرائيلي هو أهم محددات السياسة الخارجية السودانية على الإطلاق. فهو الذي بسببه دارت رحى حرب الجنوب ثم انفصل. وهو الذي أدى لحصار السودان لثلاثين عاما في عهد الإنقاذ. وهو الذي أجّج مشكلة دارفور. وهو الذي تسبّب في تطاول أمد الفترة الانتقالية الأخيرة ثم انهيارها. وهو الذي أشعل هذه الحرب الضروس. وهو الذيدفع الامارات لتتدخل على نحوِ ما نرى اليوم. وهو الذي بسببه تُوقِّع العقوبات على قيادة الجيش، وتُضبط بالملي وفق مقتضياته. بل هو الذي من أجله يُمهَّد الآن لتمزيق السودان تحت شعار “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير”. ومن ثم فانه ينبغي على الوطنيين السودانيين عامة، و”حزب ما بعد الترابي” خاصة، أن يجعلوا هذا العامل نُصب أعينهم؛ فيُجمِعوا الرأي ويُعِدوا العُدّة. فكما قال نزار قباني “لم يدخل اليهود من حدودِنا * وإنما تسربوا كالنمل من عيوبِنا”. ولن تنساق إسرائيل وراء محاولات التنصل أو الاستكانة. فلن تنطلي عليها الأقنعة التي يُزمِع البعض ارتدائها بتوقيع الاتفاقات الابراهيمية. وانما ستعمل ليل نهار لإضعاف هذا الجيش على مدى طويل ولتغيير عقيدته القتالية، ثم تدميره في المرة القادمة؛ ما دامت قد فشلت هذه المرة. ولن تنخدع بالمساحيق التي يحاول ان يضعها نفر من قادة الأحزاب والحركات المسلحة، فهي لن ترضى عنهم حتى ينقادوا وراء تنسيقية “تقدم” صاغرين. 

وختاما …

انخرط هذا المقال، بحلقاته الست، في هذا الموضوع المُعضِل، الذي يتحاماه الناس، باحثا في أسباب تعثر الإسلاميين السودانيين ودواعي نهضتهم القادمة. ولئن افترع في فقه المراجعات نهجا، فإنه ليس له او لأي مقال آخر أن يحيط بالتجربة الإسلامية السودانية على اتساع مداها أو يدلف لعمقها الزاخر ليتقدم فيها بمراجعات شاملة. فإنما ذلك ما تقوم به العصبة من الناس وما نرجو أن يُحفِّز هذا المقال القائمين بالأمر لإنجازه. وإذا لم يتطرق المقال لتجربة الإسلاميين في الحكم أثناء الإنقاذ – إلا عَرَضاً – أو لبلائهم في المعارضة، فإنما لأن ذلك ليس من موضوعه ولا يدخل في غرضه. وإذا ما صَوب المقال على الهدف، والفكرة، والتنظيم، مبينا ما كان من أمرها بدءاً، وما صارت اليه حالاً، وما يُرجى أن تغدو عليه مآلاً؛ فما ذلك إلا لأن أسباب التعثر انما جاءت من بعض هذه الجوانب، وفيها – إن هي قُوّمت – تكمن جذوة النهضة الجديدة. 

وهو جهد المقل الذي يكفيه أنه القى حجرا في هذه اللُجّة المتلاطمة. وغايته أن يستحث آخرين أطول باعاً وأقدر حيلةً للغوص فيها. “وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ“.

انتهى في 18 يناير 2025

اترك رد

error: Content is protected !!