الدكتور الدرديري محمد أحمد
(حين نقضوا غزلهم أنكاثا)
إذا كان لمؤرخ، بعد عقود أو قرون، أن يحدد اللحظة التاريخية التي تنَكَب فيها الإسلاميون السودانيون الطريق التي اختطوها، فانه لن يجد أفضل من اليوم الثلاثين من يونيو 1989. ليس هذا تقييما للإنقاذ التي جاءت للبلاد بخير كثير لا ينكره الا مكابر. بل ليس فيه ما يُفهم منه أن الإسلاميين السودانيين استسهلوا الانقلاب على التجربة الديمقراطية أو أنهم لم يتدبرّوا عواقبه. بَيد ان ذلك اليوم – ومهما كانت دواعي الانقلاب وبغض النظر عن نتائجه – يؤرخ لمفارقة الإسلاميين السودانيين النهج والتنظيم المحكمين اللذين اقروهما بتوفيق كبير وعلى نحو متدرج منذ ستينيات القرن العشرين. وقد جاءت تلك المفارقة في ثلاث مسائل كبرى، الانقلاب نفسه كان أولها.
كان الدافع لتدبير انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 مزدوجا. فمن ناحية تخوف الإسلاميون من اجهاض التوجه نحو تطبيق الشريعة الذي بدأه نميري بإصداره ما سمي بقوانين سبتمبر 1983. ومن ناحية أخرى استشعروا أن اقصاءهم عن اللعبة الديمقراطية باستخدام القوات المسلحة كان وشيكا. فبعد سقوط نميري (أبريل 1985) بقليل، تقدم الجيش في 18 أغسطس 1985 بمذكرة طالبت بإيقاف مشروع القوانين البديلة لقوانين سبتمبر. ذلك المشروع الذي كان يرجى ان يعالِج ما ظهر في قوانين سبتمبر من غُلوٍ واشتطاط ويكون صدوره محلا لتوافق سياسي. توجس الإسلاميون من تلك المذكرة التي مثلت تدخلا سافرا من الجيش في الشؤون المدنية وعطلت مساعي التوصل للتوافق المنشود. بعد ذلك بأشهر قليلة حققت الجبهة الإسلامية نجاحا كبيرا في انتخابات ابريل 1986؛ اذ حصلت فيها على أكثر من خمسين مقعدا في الجمعية التأسيسية. تخوفت قوى داخلية وخارجية من أن يؤدي فوز الإسلاميين الكبير الى إقرار الجمعية التأسيسية القوانين الاسلامية البديلة لقوانين سبتمبر. تسارعت الخطى في الظلام، على مدى عامين ويزيد، ولم تهدأ حتى تم ابرام اتفاق الميرغني/قرنق، في أديس أبابا في 16 نوفمبر 1988، متضمناًنصا صريحا بإلغاء قوانين سبتمبر 1983. حينها أدركت الجبهة الإسلامية أن هناك أطرافا خارجية تسعى لمنع استمرار المسيرة الديمقراطية إذا كانت ستفضي في النهاية لتأكيد القوانين الإسلامية. ثم تعززت مخاوفها حين تواترت الروايات عن انقلاب بعثي وشيك يخشى – إبان جبروت العراق وسطوته – ان يقمع الحريات ويوقف المسيرة الديمقراطية ويضيق على الإسلاميين خصوصا.لكل هذه الأسباب قدّر الإسلاميون السودانيون أنه ما دام تدخل الجيش في المشهد السياسي ضربة لازب، فليكن ذلك “بيدي لا بيد عمرو”. وهكذا تم تنفيذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989.
قبيل تنفيذ الانقلاب، تفاكر الإسلاميون السودانيون مليّاً حول كيفية وتوقيت نقل السلطة بعد نجاح الانقلاب من العسكريين للمدنيين. وكان ذلك موضوعا لسلسة من الاجتماعات تجاوزت العشرين، كان الترابي حاضرا فيها كلها. في النهاية حدث توافق على ان يكتمل انتقال السلطة للمدنيين في نحوِ العامين. غير أنه هناك دوماً فرق بين حساب الحقل وحساب البيدر. فالعوامل الداخلية والخارجية التي تكاثفت بعد الانقلاب جعلت الإسلاميين يقررون تأجيل نقل السلطة الى العام 1996.
بعدها انفلتت الأمور وتواجه العسكريون مع الدكتور الترابي ووقعت المفاصلة في ديسمبر 1999. غير أنه واتت من استمروا في الحكم بعد المفاصلة فرصتان لنقل السلطة للمدنيين ومن ثم تحقيق الانتقال من حال الانقلاب والثورة الى حال المشروعية والدولة. وكانت أولها الفرصة التي أتاحتها اتفاقية السلام الشامل في 5 يناير 2005. وكانت الثانية هي الحوار الوطني الذي أطلق في 27 يناير 2014. الا أن العقلية التي أوجدها الانقلاب، والتي تخلّت عن مبدأ نقل السلطة للمدنيين وعدّته مما يدخل فيما سُمي حينها “تصفية الإنقاذ”، قد تسببت في ضياع الفرصتين. ويقودنا ذلك لأن نتفحص قليلا هذه الذهنية الجديدة.
عند نجاح الانقلاب انساقت كوادر الإسلاميين وشبابهم وراء المشروع الانقلابي، دون أن يتبينوا أوجه الاختلاف بينه وبين مشروعهم الأصيل. وكان الاختلاف بين المشروعين جذريا. ففي الوصول للحكم على ظهر دبابة وليس عبر صندوق الانتخاب، اتخاذ لنهج ثوري متعجل بديلا للنهج الإصلاحي المترفق الذي كانت تقول به الحركة. وإذا كان البعثيون والشيوعيون يبيحون لأنفسهم الانقلابات، كونه ليس منظورا أن يصلوا للحكم بغيرها، فانه لم يكن من سبب يدفع الإسلاميين لاتخاذها وسيلة. وان جاز لهم ان يفعلوا ذلك، في ظروف مثل التي أشرنا اليها أعلاه، فإنما يكون استثناءً من باب الضرورة التي تقدر بقدرها. مهما يكن فقد اعترف الترابي عدة مرات بالخطأ الذي ارتكبته الحركة الإسلامية بتدبيرها انقلابا، رغم المبررات والمسوغات التي جعلتهم يتخذون ذلك القرار. وبالرغم من أن إدانة الشيخ الترابي للانقلاب جاءت بعد المفاصلة، إلا أنها تتجاوز الملابسات الظرفية لذلك الحدث لتكتسب قيمةً معيارية تهدي الأجيال القادمة من الإسلاميين.
غير أن أول من أنتبه لخطأ استمرار الانقلاب وللأخطاء التي تراكمت جراءه، كان جيل الشباب. فتكاثفت دعواتهم أفرادا وجماعات للعودة الى خط الحركة؛ كل على شاكلته. ومن الذين كتبوا مبكرا من الجيل الثاني حسن مكي، والتيجاني عبد القادر. ثم تلت ذلك رؤى إصلاحية جماعية على فترات مختلفة؛ أبرزها مذكرة العشرة، ومذكرة الألف، ومذكرة مجموعة غازي صلاح الدين. ثم برزت أصوات ناقدة من قياديين بارزين أشهرهم احمد عبد الرحمن وأمين حسن عمر.
بعد المفاصلة تبنت بعض التكوينات مبادرات ذات أثر. ومن ذلك مجموعة الإحياء والتجديد، ومجموعة “سائحون”، ومنتدى ابن رشد، والتفسير التوحيدي. وقادت هذه المجموعات حوارات ونقاشات، بل تمايز بعضها عن جسم الحركة الرئيس. ووجدت هذه الرؤى والأفكار سبيلها لمن كانت بيدهم أعنّةالأمور. ومن ثم اختلط الصراع حول السلطة، عند المفاصلة، بالخلاف حول المبدأ والفكرة … والله يتولى السرائر.
من أهم ما ترتب على هذه العقلية الجديدة التي ولّدها الانقلاب تراجع الحركة عن شطرٍ من قناعاتها الفكرية المستقرة. اذ نتجت عنها، وكما قال محمد مختار الشنقيطي، فجوة بين المبدأ والمنهج. وفصّل الشنقيطي في ذلك بالقول: “ان الحركة الإسلامية السودانية أعظم حركة في الفكر الاستراتيجي وبناء التحالفات والعلاقات الخارجية، ولكنها أسوأ تجربة في الحكم في العالم السني، فهناك فجوة هائلة بين المبدأ والمنهج. نجحت في المناهج العملية والاستراتيجية العملية وفرطت تفريطا شديدا في المبادئ والقيم التي تأسست عليها”. هذه الفجوة بين الفكرة وبين النهج الذي تبع الانقلاب هي المسألة الثانية التي نعرض لها هنا.
بعد وصولها للسلطة غادرت الحركة مبدأها القديم الذي كانت تربط فيه الفعل بالواقع وتطور رؤاها وفقا لسياقاته. وحاولت بلورة نسق فكري أشبه ما يكون بأيدولوجية متكاملة. اذ شرعت في التخطيط لمرئيات عقائدية طويلة المدى. ففي ندوة مركز دراسات المستقبل الإسلامي التي عقدت بالجزائر في مايو 1990 قدّم الدكتور الترابي مساهمة بعنوان “أولويات التيار الإسلامي لثلاث عقود قادمات”؛ أي أنه كان يقدم خطة مستقبلية للتيار الإسلامي في الفترة من 1990 وحتى 2020! وقد تضمنت تلك الورقة مبادئ للتخطيط الإستراتيجي في جملة من المسائل منها كيفية تحكيم الشريعة، والطهارة من الفساد، وبسط الشورى. وقُدمت فيها رؤية للحركة بشأن المرأة أكثر راديكالية من الدعوة القديمة لإطلاق المرأة من قيود التقاليد. اذ هدفت الرؤية الجديدة الى “تحريرالمرأة”، “لإحداث ثورة ذات بال في حياة المسلمين”. كذلك تضمنت تلك الورقة أطروحة بشأن “التمكين المطمئن”. مهما يكن فانه من نعم الله أن هذا التوجه الأيديولوجي الجديد الذي برز في الجزائر في عام 1990 لم يجد أصداء كبيرة في الخرطوم، فلم تطور مرئياته هذه الا لماما.
الا أن الكثير من الأفكار والمصطلحات الجديدة التي ما كانت مألوفة في أدبيات الإسلاميين السودانيين قبلا، وما كانت مما يعرف من لغة الترابي، قد بدأت تتجذر وتأخذ مضامين فكرية جديدة يُقبِل الناس عليها دون كثير جدال. ومن ذلك “التمكين” الذي أُشتهر أمره، والذي بدأ تمكينا للمبادئ والفكرة في المجتمع ثم تحول الى تمكين للحركة وكوادرها في الدولة.
ومن المصطلحات الجديدة التي ترسخت في العشرية الأولى للإنقاذ، مصطلح “الحاكمية”. فقد ورد في النظام الأساسي للمؤتمر الوطني أن الهدف الأول للحزب هو “إقرار الحاكمية في الدولة لله”. وجاء في المادة الرابعة من دستور 1998 ان “الحاكمية في الدولة لله خالق البشر”. وشتان بين هذا وبين ما قاله الترابي قبل نحوا من ثلاثين عاما في كتابه أضواء على المشكلة الدستورية، حين جعل للجمعية التأسيسية “الحاكمية غير المقيدة”؛ ثم ما عرف عنه لاحقا من القول إن “الحاكمية للشعب”. بتطاول العهد بالإنقاذ هُجرت هذه المنظومة الأيديولوجية عمليا، وتوقفت اجتهادات الدكتور الترابي فيها بعد المفاصلة. غير انه لم تتم العودة للنهج الإصلاحي القديم القائم على الربط بين الفكر والعمل.وربما، وكما قال التيجاني عبد القادر، انفسح المجال لاجتهادات لحظية لا تعبأ بفكرة.
ومن الأخطاء التي وقعنا فيها بسبب مفارقة النهج المبدأ، تكوين المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في عام 1991 كتنظيم عابر للحدود يعمل على مستوى الساحة الإسلامية والعربية. بالطبع كان ذلك مما يستغرب بشكل خاص من التنظيم الإسلامي السوداني الذي خرج عن التنظيم الدولي للإخوان بحجة ان “أهل كل بلد أدرى بشعابها”. وان للإسلاميين في كل بلد “أن يراعوا خصوصياتهم الظرفية دون افتتان بتقليد عالمي يقطعهم عن أصول التحديات الفعلية”. إضافة الى ذلك فانه لم تسبق ذلك المشروع دراسة لردود الفعل الدولية المتوقعة على السودان. وحيث ان ذلك الكيان قد ضم في عضويته معارضين للأنظمة السياسية في نحوِ عشرين دولة، ولأنه شكل مشروعا للتقارب بين السنة والشيعة، ولأنه تبنى الحوار بين الأديان، فان ذلك ولد اجماعا عربيا واسلاميا ضد السودان؛ كونه يرعى “عالمية إسلامية” جديدة. بل توجس الغرب خيفة من ذلك. فاعتبر كتاب كبار ان المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي كيان ضرار يقام لسحب البساط من منظمة المؤتمر الإسلامي الخاضعة للهيمنة السعودية والناجحة، وفقا لمرئياتهم، في تدجين العالم الاسلامي. كانت تلك بعض شواهد المسألة الثانية التي نكصت فيها الحركة على عقبيها؛ والتي هي مفارقة المبدأ.
أما المسألة الثالثة، فكانت هي النُكول عن أهم قيمة تضمنها اتخاذ التنظيم وبناء الحركة على هيكل؛ والتي هي ابدال محورية الشيخ التقليدية في التاريخ الإسلامي بالنمط التنظيمي الحديث الذي يكون فيه للتلاميذ دور واسهام. فبعد خروج الترابي من السجن في عام الإنقاذ الأول تركزت الأمور في يده ونُشرت كوادر الحركة في الآفاق، تأتمر وتنفذ دون ان تُناقِش. بل ضاقت القيادة ذرعا بجسم الحركة المركزي نفسه وبهياكلها ونظمها. ففي سنة 1993 جُمع مجلس الشورى – وليس المؤتمر العام – ليتخذ أكبر قرار في تاريخ الحركة الإسلامية السودانية؛ والذي هو قرار تعليقها! لاحقا اُستدعيت الحركة الإسلامية للعمل في سياقات ما بعد المفاصلة. وسواء كان ذلك في حد ذاته خيرا أم غير ذلك، فانه لم يعُد من الحركة للحياة الا اسمها ورسمها. اذ ذهبت مكانتها في النفوس الا قليلا، وتبددت فعاليتها السابقة، وانتقل مركز السلطة الى خارجها.
بل قُضي هذا الأثناء على أهم مبدأ كان يمكن أن يدخل لرحاب العمل الإسلامي في ركاب التنظيم الحديث، ألا وهو مبدأ التداول الداخلي للقيادة. وقد قال محمد محجوب هرون عن ذلك، مستشهدا بصمويل هنتنغتون، “إن استمرار الرئيس مدة طويلة وكذا الترابي أمينا عاما للحركة مدة حياته أدى إلى غياب المؤسسية؛ فمقياس المؤسسية عند هنتنغتون هو أن يُسلِّم الجيل المؤسِّس السلطة للجيل الذي بعده وهو على قيد الحياة”. في تقديري إن السبب الأول لاستمرار الرئيس مدة طويلة كان هو بقاء الترابي في المنصب العمر كله – مثله في ذلك مثل شيوخ الإسلام التقليديين – وليس لدورات معلومة كما هو حال الأمناء العامين للتنظيمات الحديثة. اذ لو أن الحركة التزمت مقتضيات العمل التنظيمي وأحدثت تداولا داخليا لكانت قد قدمت المثال والنموذج لما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الدولة. حينها ما كان ليتأتى لرأس الدولة تجاوز ذلك المثال. وهكذا فان ضعف المؤسسية في الحركة أدى الى ضعفها في الحزب والدولة؛ فتمكنت فيهما معاً ظاهرة “الرجل القوي”. وهي ظاهرة تنمحق بسببها الشورى، ويتراجع عندها الأداء الكلي، وتتصلب جراءها شرايين التنظيم، وتخفت لديها روح المبادرة، ويكثر فيها تناقل القيل والقال على المستوى الأفقي. بل تتحول معها المؤتمرات واللقاءات الجامعة الى أيام زينة ومواسم تمجيد. وما كانت المفاصلة الا تجلياً لهذه الظاهرة. اذ انه بضعف المؤسسة – وفي غياب النموذج – يكون التنافس فردانيا حول من يكون الرجل القوي.
سيتناول هذا المقال في حلقته الخامسة كيف أن العلمانيين السودانيين حرصوا على جعل الليبرالية شرطا للديمقراطية حتى يعرقِلوا ترسخ نظام ديمقراطي في البلاد تكون نتيجته هي تولي الإسلاميين السلطة عبر صناديق الاقتراع. غير أنه ما كان هناك ما يمنع الإسلاميين أنفسهم – وعلى مدى ثلاثين عاما – من ترسيخ الديمقراطية غير المرتبطة بالليبرالية؛ تماما مثلما فعلت بعض الأحزاب الحاكمة في افريقيا جنوب الصحراء. ففي تنزانيا نجح قادة حزب CCM، الحزب التاريخي الذي وحّد زنجبار مع تنجانيقا، في تداول السلطة داخليا فيما بينهم لثلاث مرات. بل تخلّت بعض الأحزاب الأفريقية الكبرى عن السلطة لغيرها في تداول انتخابي سلمي؛ كما حدث مرارا في غانا والسنغال وبنين.
ولربما لو قدمت الحركة الإسلامية النموذج، تداولا داخليا، فتولى الأمر فيها أمين عام تلو أمين عام، لكنا قد شهدنا تداولا خارجيا للسلطة يتولى فيه أمر البلاد رئيس تلو رئيس. ولكن هيهات … أو كما كان يقول ابن عطاء الله السكندري.
هذه هي المسائل الثلاث الكبرى التي نقض فيها الإسلاميون السودانيون غزلهم أنكاثا. وهي التي جرت الوبال على الفكرة، وعلى التنظيم، وعلى الدولة. ولعل فيما ذكرنا من خَبرِها العبرة لمن يُلقي السمع وهو شهيد.