الرواية الأولى

نروي لتعرف

الأخبار

الإرهاب والإرهاب المضاد : التصنيف الإقصائي بدل السياسة (ورقة نقاش)

د. الواثق كمير

الواثق كمير

kameir@yahoo.com
تورونتو، 20 ديسمبر 2025

خلفية الورقة

ما حفّزني لإعداد هذه الورقة المُقتضبة المنحى الذي آلت إليه المساجلة السياسية في السودان، حيث بات كل طرف من أطراف الصراع يطالب بتصنيف خصمه كـ«منظمة إرهابية»، وكأن هذا الإجراء يمكن أن يشكّل مدخلاً لحسم أزمة حرب 15 أبريل التي عجزت السياسة، بكل أدواتها، عن إدارتها أو حلّها.

ففي الوقت الذي يدفع فيه حلفاء قوات الدعم السريع باتجاه تصنيف الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني تنظيماً إرهابياً، استناداً إلى تحولات إقليمية ودولية في الموقف من الحركات الإسلامية، يطالب حلفاء الجيش، في المقابل، بتصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية، على خلفية الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت خلال الحرب.

تسعى هذه الورقة إلى مناقشة الجدوى السياسية لمثل هذه المطالبات، من خلال وضعها في سياق أوسع، يتصل بتاريخ الإقصاء السياسي في السودان، وبالتجارب المقارنة في الإقليم.

غير أن ما يسترعي الانتباه ليس تباين المواقف، بل تشابه المنطلق: اعتقاد راسخ لدى كل طرف بأن نزع الشرعية عن الخصم خارجياً يمكن أن يعوّض عن غياب الحسم داخلياً. وهذا المنهج ليس طارئاً على التجربة السودانية، بل يعكس مساراً تاريخياً طويلاً، قوامه الإقصاء، ثم الإقصاء المضاد، بوصفه البديل الدائم عن التوافق الوطني.

الإقصاء كمنهج متكرر

تُظهر التجربة السياسية السودانية منذ الاستقلال نمطًا متكرراً في إدارة الخلافات السياسية، قوامه الإقصاء بدل الاحتواء.

● منذ الاستقلال، تأسست الدولة السودانية على اختلال عميق في تمثيل مكوّناتها. فقد أُقصي الجنوبيون من المشاركة العادلة في تقرير مصير البلاد ما مهّد لحروبٍ وانقساماتٍ مُبكرة.
● وفي عام 1965، أقدمت حكومة منتخبة على إقصاء الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، في سابقة مثّلت كسرًا لقواعد التعددية الديمقراطية من داخلها.
● وجاء الرد في شكل انقلاب مايو 1969، بمشاركة الحزب الشيوعي وقوى يسارية وقومية عروب، ليبدأ طور جديد من الإقصاء، شمل الأحزاب التقليدية والإسلاميين، واستخدم فيه العنف المسلح، كما حدث في الجزيرة أبا وود نوباوي.
● ولم يتوقف هذا المنهج عند حدود الخصومة السياسية، بل تمدّد إلى داخل المعسكر الواحد. فبعد محاولة انقلاب يوليو 1971، جرى إقصاء الحزب الشيوعي نفسه إقصاءً كاملًا، وتفكيك قاعدته النقابية والاجتماعية الحضرية، في مشهد أعاد إنتاج المنطق ذاته بأدوات مختلفة.

ذروة الإقصاء… ثم تدويره

وبلغ مسار الإقصاء ذروته مع انقلاب 30 يونيو 1989، حيث جرى إقصاءٌ شاملٌ لجميع القوى السياسية، وحُلّت النقابات العمالية واتحادات المزارعين والتنظيمات المهنية، وأعاد تشكيل الدولة على أساس الولاء السياسي لا التعدد.

حتى بعد ثورة ديسمبر 2018، لم يجرِ كسر هذا النمط جذرياً، إذ انتقلت قوى كانت ضحية للإقصاء إلى موقع السلطة الانتقالية، غير أنّ إدارة اللحظة بدت، في كثير من جوانبها، وكأنها فرصة لتصفية حسابات تاريخية أكثر من كونها مدخلًا لبناء توافق وطني جديد، فتم إقصاء الإسلاميين عبر لجنة تفكيك التمكين، دون معالجة جذرية لسؤال الدولة أو أسس المشاركة السياسية.

الحرب وإعادة إنتاج المنهج

مع اندلاع حرب 15 أبريل 2023، عاد الإسلاميون إلى المشهد من خلال دعمهم للجيش في مواجهة الدعم السريع، فعاد منطق الإقصاء بدوره، ولكن من موقع مختلف. وفي ظل هذا الاستقطاب الحاد، جرى إقصاء قوى “الثورة”، تحالف الحرية والتغيير، “تقدُم وصُمود” لاحقاً، من المشهد السياسي، وفتح بلاغات ضد قياداتها، وسادت لغة التخوين السياسي والاتهام بالعمالة، في إعادة إنتاج واضحة للدورة نفسها: من كان ضحية الإقصاء بالأمس، أصبح ممارساً له اليوم.

في هذا السياق، برزت مطالب التصنيف الإرهابي بوصفها أداة جديدة في صراع قديم.

منطلق وحدود المطالبة بالتصنيف

تنطلق مطالب تصنيف الخصم كمنظمة إرهابية، لدى مختلف أطراف الصراع السوداني، من فرضية سياسية مركزية مفادها أن نزع الشرعية عن الخصم في الفضاء الدولي يمكن أن يشكّل بديلًا عن الحسم السياسي الداخلي.
فالطلب لا يستهدف إدارة العنف بقدر ما يسعى إلى نقل الصراع من المجال الوطني إلى المجال الدولي، أملاً في عزل الخصم وتقييد حركته، بدل خوض مسارات تفاوض وتسوية معقّدة.

غير أن هذا المنطلق، رغم جاذبيته الظرفية، يواجه حدوداً عملية واضحة، إذ تُشير تجارب الإقليم القريب إلى محدودية هذا الرهان. فقد جرى في أكثر من سياق تجاوز تصنيفات مشابهة حين تغيّرت موازين القوى، وعادت قوى مصنّفة نفسها إلى واجهة التفاوض أو الحكم، بينما بقيت المجتمعات التي راهنت على الإقصاء أسيرة صراعات أطول وأعمق.

وفي هذا المعنى، فإن التصنيف لا يشكّل بديلاً عن السياسة، بقدر ما يعكس تعثّرها.

دروس من التجارب المقارنة

تشير تجارب إقليمية ودولية قريبة إلى أن التصنيف الإرهابي نادراً ما شكّل حلاً دائماً للصراعات السياسية:

● منظمة التحرير الفلسطينية انتقلت من خانة «الإرهاب» إلى شريك تفاوض حين تغيّرت السياقات الدولية.
● حركة طالبان عادت إلى الحكم بعد عقدين من الحرب، رغم استمرار تصنيفها.
● حركة حماس، رغم تصنيفها تنظيماً إرهابياً لدى قوى دولية مؤثرة، دون أن يمنع ذلك التعامل معها كلما فرضت الوقائع السياسية والإنسانية، ظلّت فاعلًا لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات تتعلق بغزة.
● كما تُظهر حالة أحمد الشرع (الجولاني) كيف يمكن لفاعل ارتبط في مرحلة سابقة بتنظيمات جهادية مصنّفة أن يعيد تقديم نفسه بوصفه سلطة أمر واقع، وتُدار معه علاقات سياسية وأمنية بحكم السيطرة على الأرض، دون أن يكون التصنيف عائقاً حاسماً أمام هذا التحول.
● وفي ليبيا واليمن، لم تمنع التصنيفات المتبادلة من الجلوس مع القوى المسلحة نفسها عند البحث عن تسويات.
تشير هذه التجارب مجتمعة إلى حقيقة واحدة: أنّ التصنيف أداة ظرفية، لا حلاً دائماً وأنّ الفاعلية على الأرض كثيراً ما تتقدّم على التصنيفات القانونية والسياسية.

أسئلة مفتوحة للنقاش

تطرح هذه الورقة جملة من الأسئلة أمام القيادات السياسية والمجتمعية:

● هل يمثّل التصنيف الإرهابي أداة واقعية لإنهاء الصراع، أم أنه يساهم في إطالته؟
● ما أثر هذا المنهج على فرص بناء تسوية سياسية شاملة في السودان؟
● هل يؤدّي تدويل الصراع عبر التصنيفات إلى حماية الدولة، أم إلى إضعافها؟ وربما الأهم:
● كيف يمكن كسر حلقة الإقصاء والإقصاء المضاد التي أعادت إنتاج نفسها عبر العقود؟

خاتمة

لا تجادل هذه الورقة في مشروعية المساءلة أو العدالة، لكنها تميّز بين العدالة بوصفها مساراً سياسياً وقانونياً شاملاً، وبين التصنيف بوصفه أداة إقصاء ظرفية. وتخلص إلى أن أزمة السودان لا تكمن في غياب التصنيفات، أو وفرتها بل في ترسّخ منطق الإقصاء بوصفه أسلوباً لإدارة الصراع السياسي، وفي غياب مشروع سياسي “تأسيسي” قادر على إدارة التنوّع والصراع خارج منطق الإلغاء.

وما لم تدرك القيادات السياسية والمجتمعية أن التعويل الكامل على وسم الخصوم، أيّاً كانت التسمية، هو التفاف على مواجهة جذور الأزمة، فإن البلاد ستظل تدور في الحلقة نفسها، مهما تبدّلت المواقع وتغيّرت الوجوه.

اترك رد

error: Content is protected !!