بروفيسور صلاح محمد إبراهيم
اظن أن المواطن السوداني الذي يطلق عليه ( محمد أحمد) يعيش في حيرة من امره وحاصرته السيول والأمطار والكوارث الطبيعية والسياسية يريد أن يعرف أين المنتهى والمرسى ، بعد أن تطاولت حالة عدم الاستقرار السياسي والعجز عن حل ازمة الحكم منذ أبريل2020، او ما يطلق عليه البعض في الفضائيات ( ثورة ديسمبر المجيدة )، وهو توصيف يخالف التعريف التاريخي والمعجمي للثورات، فهي ليست مثل الثورة الفرنسية أو البلشفية في روسيا 1917، اللتان احدثتا تحولات سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية جذرية في تلك المجتمعات، وهو ما لم يحدث هنا أو في دول مجاورة ايضاً، وكما وصفهم الراحل منصور خالد واظنه لم يستثني نفسه بإدمان الفشل في إدارة شأن الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى زمانه ، فإن النخب السودانية تتوارث الفشل حتى في استخدام المصطلحات وتسوق للجماهير والأتباع مسميات وشعارات بغرض الكسب الحزبي والمصالح الخاصة ، وإدمان الفشل قذف بالبلاد إلى حالة من الفوضى والمنزلق الخطير الذي بات يهدد وجود الدولة.
حالة فقدان البوصلة السياسية وعدم ترتيب الأجندة لحل المشكلة السياسية الحالية للفترة انتقالية التي لم يكن مقدراً لها أن تستمر لأكثر من عام يؤكد حالة عجز النخب ، وإذا بنا على اعتاب العام الرابع دون أن يلوح في الأفق مخرج أو ضوء في اخر النفق المظلم الذي دخلت فيه البلاد ، ودون مراعاة للظروف الحياتية الصعبة التي يعيشها الناس بينما النشطاء والسياسيين لاهين في كتابة المبادرات وصياغة البيانات والحديث في الفضائيات وتقديم عرض مواقفهم السياسية بطريقة فطيرة ينقصها المنطق والمعلومات وتعبر عن تعصب ومواقف في معظمها تبريرات ومساجلات خاوية تستغلها القنوات لملء الفراغ أو ربما لخدمة اجندة يتم فيها استغلال حالة الفوضى والمكايدات السياسية السائدة الان في البلاد.
الوضع القائم في البلاد الان تعبير حقيقي لآزمة الديمقراطية في السودان وربما في الكثير من دول العالم الثالث، وتشكك في مواقف القوى السياسية وممارساتها في ما إذا كانت الليبرالية صالحة كنظام للحكم في هذه الدول ، ولعل ما يجري في العراق وليبيا ليس بعيداً حول حالة الانشقاق والخلافات التي عصفت بالحراك الجماهيري على النظم غير الليبرالية أو العسكرية.
في الحالة السودانية غادر الفريق عبود الحكم طواعية واعاد السلطة للمدنيين عام 1964، الذين سبق أن دعوه لاستلام السلطة ، وبدأت جولة ثانية من الحكم الليبرالي في السودان بين 1965 -1969، شهدت فيها البلاد من مهازل الديمقراطية التي مزقت حتى دستور البلاد، ولم يشهد السودان فيها مشروعا تنموياً أو تبني سياسة اقتصادية واضحة ، أو بناء جسور وعلاقات خارجية مبنية على تبادل المصالح و تحسين حياة الناس ، وظل الحال على ما هو عليه حتى تدخل العسكريين في عام 1969( مايو) ، صحيح أنها كانت غير ديمقراطية بالمفهوم الغربي ، ولكن يحمد لها أنها أكثر فترة في تاريخ السودان شهدت تدفقاً للأموال والاستثمارات العربية في السودان خاصة من دول الخليج العربي ، وكان تدفقاً غير مسبوق في تاريخ البلاد امتد اثره حتى يومنا هذا.
فتحت مايو تدفق الخبرات والعمالة السودانية إلى نفس هذه الدول ، وحظيت هذه الفترة بعلاقات متوازنة وقوية مع هذه الدول ، خاصة جمهورية مصر العربية التي ظلت من خلال اتفاقية الدفاع المشترك سنداً للسودان في مواجهة عدو على حدوده الشرقية بجانب مهددات داخلية ، كما كانت اتفاقيات التكامل السوداني المصري انجازاً حقق على ارض الواقع تبادل تجاري ومنافع للبلدين ويكفي أن نذكر فقط أن عدد الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون على نفقة الحكومة المصرية في المعاهد والجامعات كان يقترب من انثنى عشر الف طالب، لم تستمر تجربة مايو بسبب أخطاء جوهرية وقع فيها الرئيس الراحل نميري، بجانب المعارضة السودانية التي وجدت بعض التمويل والمساندة من دول خارجية، وقد فشل النميري في تفهم المخاطر التي كانت تحيط بحكمه وإجراء إصلاحات جذرية لاستيعاب المعارضين ، كما ساهمت تحالفاته غير المتوازنة في نهاية حكمه بحدوث انتفاضة 1985.
كانت الانتفاضة بداية لدورة جديدة من الخلافات الحزبية وتعدد التحالفات ، وهي فترة بلا إنجازات تذكر ، بل عملت عن قصد بضغوط من قوى حزبية تتسبب في تحطيم اقوى جهاز للآمن الداخلي والخارجي في افريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي ، كما جمدت اتفاقيات التكامل السوداني المصري ، ودخلت في محاولات فاشلة لحل مشكلة جنوب السودان التي كانت الأحزاب السبب في وجودها منذ الاستقلال.
عندما نتحدث بموضوعية عن تجربة الحكم التي جاءت على خلفية حكومات تأسست على تحركات عسكرية استولت على الحكم وحكومات مدنية جاءت بعد حراك جماهيري وانتفاضات ، نلاحظ أن العالم مثلاً قد تعامل مع نظام عبود بمنتهى التعاون زار عبود بريطانيا واعد له استقبل ملكي ، وزار أميركا واستقبل بحفاوة ، وحظي السودان بمساعدات من تلك الدول، وكذلك نميري وجد خلال سنواته الأولى دعماً أميركيا وعربياً ًاقتصاديا قوياً، وشهد تدفق المبعوثين السودانيين للدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية بصورة لم تحدث من قبل في تاريخ السودان ـ بجانب مشروعات الطرق والبنيات الأساسية وتحديث الخطوط الجزية السودانية ،لم يحدث ذلك حباً من الولايات المتحدة للنميري ، ولكنه هي المصالح العليا المتبادلة ، ومع ذلك سقط النميري بسبب ضغوط سياسية واقتصادية اميركية وغربية استفادة من المعارضة الداخلية، ولكن بعد سقوط نميري تراجع الدعم الغربي، واكتفي بتقديم الإغاثات والعون الإنساني، والسبب كما حدث بعد ثورة أكتوبر هو عدم الاستقرار السياسي والخلافات الحزبية وأزمة الجنوب ، وعندما جاءت الإنقاذ ازداد الأمر تعقيداً مع العالم الخارجي .
الاتقاد في اعتقادي لم تكن حكماً عسكرياً بالمعنى التقليدي ، ولكنها كانت حكماً مدنياً بامتياز ، باعتبار أن القوى المدنية الحزبية ذات الخلفية الإسلامية هي التي كانت تسيطر على مفاصل الدولة، وهي ايضاً بسبب سياسات خاطئة فشلت في التعامل مع العالم الخارجي، كما أن الدول الإقليمية تعاملت معها بكثير من التحفظ والشكوك، وفترة الإنقاذ ايضاً يمكن النظر اليها من خلال فكرة منصور خالد عن النخب السودانية التي لم تفهم على مدى أكثر من نصف قرن أن السودان دولة في طور التشكيل، وهو ليس دول محورية في السياسة الدولية مهما كان عظم مساحته ، وأن على قادته السياسيين التعامل مع العالم القريب والبعيد بمعيار المصالح المتبادلة والتراتبية في العلاقات الدولية ، خلال فترة الإنقاذ خسر السودان الولايات المتحدة والدول الغربية، وظهرت جفوة بينه وبين مصر ، وتحفظات من قبل بعض الدول العربية ، وكان من المفروض على نظام الإنقاذ اجراء تنازلات كبيرة لاستيعاب الأخرين على قدر اوزانهم ، ذلك لم بحدث على الرغم من ظهور أصوات داخل الحكم كانت تطالب بذلك ، وكان ذلك أيضاً اصافة لفشل نخبوي جديد ، لقد جربنا كل النخب الان بجميع مسمياتها وقيانتها وانقلاباتها ، و نحن والعالم نريد أن نعرف على الأقل خلال هذه الفترة الانتقالية القصيرة القادمة عسكرية ولا مدنية افيدونا يرحمكم الله.