الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي قضايا

( الأخيرة ) الجيش : بين أجندة الرباعية والسردية الوطنية

الدكتور الدرديري محمد أحمد

(٤ من ٤)

 بسبب هذه الحرب يستدير الزمان كهيئته فجر الاستقلال، ويُجمع الشعب من جديد على ما كان مُجمعا عليه يوم رفع الأزهري والمحجوب العلم. وبسبب هذه الحرب أيضا يجد الجيش نفسه قادرا لأول مرة أن يجعل من هذا الإجماع منقطع النظير حاديا لاستعادة سردية الاستقلال، فيجعل من هذا الانتقال انتقالا تأسيسيا. فإن لم يفعل وأضاع هذا الاجماع النادر، فإن البديل التلقائي هو السردية البديلة الغارقة في التبعية والإقصائية واليأس، والتي يجري سبكها في عواصم بعيدة. ومن أهم ما يعنيه اختيار سردية الاستقلال هو مدنية الدولة؛ فذلك من مضامينها الراسخة. ومن أهم ما يعنيه الارتكاس الى السردية البديلة هو عسكرة الدولة؛ فهي لا تتيح مجالا للفكاك من هيمنة الجيش التيأفرزتها هذه الحرب. وقد يهمل الجيش هذا الاجماع الوطني ويتهيب استرداد سردية الاستقلال لا لشيء الا لأنه يرى صعوبات جمة تحول دون استعادة مدنية الدولة. فإذا كانت المدنية قد ضاعتمنذ أن كان الاستقلال غضا، والجيش طري العود، فكيف بها تستعاد اليوم بعد أن تمكنت العسكرة وترسخت بسبب الحرب. وقبل أن نبيّن مخاطر الاستمرار في العسكرة التي تفوق مخاطر العودة للمدنية أضعافا مضاعفة، دعونا نرجع للوراء قليلا فنتأمل لماذا صار هذا الجانب من سردية الاستقلال حبرا على ورق. ونقارن أيضا مع التجربة الهندية لننظر كيف ترسخت مدنية الدولة عندهم. فبينما لا ينفك الجيش عندنا حاضرا باستمرار في المشهد، لم تُسجِل الهند حتى اليوم أي تدخل للجيش في السياسة ولا لمرة واحدة. فكيف تأتى ذلك!

لعل أول الأسباب التي أدت لما حدث من تباين في مصائر البلدين هو الاختلاف في تأهيل النخبتين المدنيتين. فالنخبة الهندية التي أوكلت اليها الدولة فجر الاستقلال كانت رفيعة التأهيل. فهم من خريجي أكسفورد، وكمبريدج، وكليات كلكتا ودلهي ومَدراس رفيعة المستوى. اذ كانت الهند، ومنذ القرن التاسع عشر، مركزًا لتجربة بريطانية فريدة في بناء نخبة بيروقراطية عالية التعليم وراء البحار. ومن ثم كانت تلك النخبة تعي جيدا مسئوليتها التاريخية. فكانت تدرك مخاطر الانقسام، فتوحدت كما أسلفنا القول. وكانت تعلم الشرور التي تفضي اليها تجاذبات السياسة، فحرصت على النأي بنفسها عن الكيانات التقليدية والانتماءات الاقليمية.

في المقابل لم تحظ النخبة السودانية بذات المستوى من التأهيل. فكلية غوردون التذكارية كانت حين اُنشئت عام ١٩٠٢ مدرسة فنية كتابية هدفها تزويد الإدارة الاستعمارية بموظفين في الدرجات الدنيا، فيما تظل الوظائف العليا بيد الانجليز والمصريين. ولم تتحول إلى كلية جامعية إلا في أواخر الأربعينيات، مما لم يتح الوقت الكافي لتأهيل نخبة ذات تكوين رفيع. فآلت الأمور في السودان لهذه النخبة محدودة التكوين التي أسلمت خُطامها لزعيمي الطائفتين المتناحرتين يتنازعانها.  ومن ثم ما كان مستغربا أن تصل النخبة السودانية مبكرا، في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨، الى قناعة مُرة فحواها أنها عاجزة عن أن تجسد حلم الاستقلال وأن الجيش هو المنقذ. وبعد أن تم أرساء سابقة الانقلاب الأول، سهُل على اللاحقين أن يتّبعوا سَنن من كان قبلهم. وثاني أسباب الاختلاف بين التجربتين السودانية والهندية هو الاختلاف في طبيعة الجيشين.

 عند الاستقلال عام ١٩٤٧، ورثت الهند جيشًا محترفًا ذا تقاليد راسخة. فلما كانت بريطانيا بحاجة إلى جيش ضخم ومنظم لحماية إمبراطوريتها في آسيا، جعلت مما سمته “الجيش البريطاني الهندي” أحد عناصر قوة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. فدُمج الجيش الهندي منذ اليوم الأول في المنظومة العسكرية البريطانية وتلقى تدريبا وتأهيلا صارما مكنه من المشاركة بكفاءة في الحرب العالمية الأولى. ومنذ العام ١٩٢٢ بدأ ابتعاث الطلاب الحربيين الهنود إلى ساندهرست ببريطانيا. ثم أسست بريطانيا في العام ١٩٣٢ أكاديمية دهرادون العسكرية Indian Military Academy – IMA Dehradun، بالهند، على نموذج ساندهيرست ليتسنى تأهيل أعداد أكبر من الضباط الهنود محلياوبنفس مستوى التأهيل في بريطانيا. ذلك أن بريطانيا، وهي تعيش مخاطر ما بين الحربين، قد شرعت في توسيع الجيش الهندي ليبلغقوامه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية في ١٩٣٩ نحوا من ٢٫٥ مليون جندي. وأهم ما نجحت فيه أكاديمية دهرادون – مما يعنينا في هذا السياق – هو تكوين ثقافة مهنية عسكرية احترافية صارمة ومنضبطة، تفصل الجيش تماما عن السياسة. وهو ما انعكس لاحقًا في استقرار النظام الديمقراطي في الهند.

أما السودان، فلم يكن بالنسبة لبريطانيا في وزن الهند الاستراتيجي. فهو عندها مجرد “منطقة عازلة” عن مناطق النفوذ الفرنسي، مطلوب السيطرة عليه لضمان تحكم بريطانيا على وادي النيل من منبعه لمصبه. كما أن بريطانيا، وبسبب تجربتها المريرة مع الثورة المهدية، لم تكن لتطمئن لعسكرة السودانيين مثل اطمئنانها لعسكرة الهنود. ومن ثم اتبعت سياسة فحواها أن يُعسكر السودانيون فقط لأغراض الأمن الداخلي. وعندما تمردت الكتيبة السودانية التابعة للجيش المصري في حركة اللواء الأبيض، أنشأت بريطانيا قوة دفاع السودان عام ١٩٢٥، لا لتحارب من أجل الإمبراطورية كما هو الحال في الهند، وانما لمنع تكرار “الفوضى” التي سادت بعد ذلك التمرد. ولهذا لم تُفتح لضباط قوة دفاع السودان أبواب الاكاديمية العسكرية الملكية، ولم تُجعل لهم كلية عسكرية عليا على نمط أكاديمية دهرادون. بل لم يُسمح لهم بتجاوز رتب محددة بدأت برتبة اليوزباشي. ولم تكن توكل لهم مهام القيادة او التخطيط العسكري، وانما اقتصروا على الحراسة والمطاردة في الأطراف. غير انه بالرغم من ضعف التأهيل والإعداد برزت كفاءة الجندي السوداني واستعداده الفطري للتضحية وتجلت شجاعته وثباته في الميدان. وأقنع ذلك بريطانيا عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية بإمكانية الاعتماد على قوة دفاع السودان. فأوكلت لها رغم صغر حجمها مهاما جليلة في شرق وشمال افريقيا، أبلت فيها بلاء حسنا.

في فبراير ١٩٥٣ وقّعت بريطانيا ومصر اتفاقية الحكم الذاتي التي نصت على أن “تُعاد تبعية قوة دفاع السودان إلى حكومة السودان، وتوضع مؤقتًا تحت إشراف القيادة المصرية حتى حين قيام الحكومة الوطنية المنتخبة”. كان لذلك النص الموجز أبلغ الأثر في مستقبل السودان السياسي. بل كان الشرارة التي أشعلت ما يتلظى اليوم من جحيم. فبموجبه تم إلحاق الجيش السوداني حديث النشأة بالقيادة العامة المصرية في ١٩٥٤ – أي في وقت كان فيه النموذج الثوري للضباط الاحرار في أوجه. فسارع القادة المصريونلاستدعاء نفر من الضباط السودانيين للتدريب في الكلية الحربية المصرية في القاهرة، حيث تلقوا دورة في تجربة “الجيش صاحب الرسالة السياسية”. وما هي الا أشهر معدودة حتى أصبحت النخبة من الضباط السودانيين ترى نفسها قوة تغيير سياسي، لا قادة لجيش مهني محايد. وصارت فكرة تأسيس “تنظيم سري” داخل الجيش أمرا مقبولا لديهم. ويفتح هذا الحديث نافذةً على جانب من تاريخ السودان السياسي والعسكري قلّما دُرس بعمق، وهو أثر تجربة الضباط الأحرار في الانقلابات السودانية. فمعظم الانقلابات والمحاولات الانقلابية التي جرت في السودان كانت متأثرة فكريًا وتكتيكيا بتنظيم “الضباط الأحرار” الناصري النشأة. بل كان بعضها يحمل اسم “الضباط الأحرار” كما كان الحال مع التنظيم الذي رتب لانقلاب مايو.

هكذا قاد اختلاف النخبتين والجيشين في السودان والهند الى ممارستين مختلفتين لمبدأ مدنية الدولة على مدى الأعوام السبعين الماضية. فقدس ذلك المبدأ في الهند تقديس الأبقار، وجعل هباء منثورا في السودان. الا ان الوضع القائم الآن بعد الحرب يجعلنا نعدل عن المقارنة مع الجيش الهندي، لنقارن بالجيش الباكستاني. ذلك أن ما يجري في السودان اليوم أشبه ما يكون بما حدث في باكستان بعد انفصالها. والذي انتهى بالجيش هناك الى أن يسيطر ليس على السلطة فحسب، وانما أن يكون هو الدولة.  

فبعد انفصال باكستان عن الهند غادر موظفو الدولة الهندوس باكستان بأعداد غفيرة، الامر الذي أدى الى انهيار الخدمة المدنية. هذا أولا. ثانيا، وبعدها بقليل، توفي محمد علي جناح رئيس الرابطة الإسلامية وملهِم فكرة باكستان في عام ١٩٤٨، ثم توفي خليفته لياقت علي خان عام ١٩٥١. ترك ذلك فراغا هائلا أدى الى تفكك حزب الرابطة الإسلامي الذي كان بمثابة حزب المؤتمر في الهند، فانهارت المؤسسة السياسية. بسبب هذا الوضع الاستثنائي في بلد حديث الاستقلال وبسبب أن التهديد الهندي كان لا يزال ماثلا، تولدت لدى الجيش الباكستاني عقيدة مفادها أنه لم يعد مجرد مؤسسة دفاعية. وانه في ظل انهيار الخدمة المدنية والمؤسسة السياسية لابد له من أن يحمل لواء باكستان، بل يتصدى للمحافظة على سردية “النجاة من الهند” التي تقابل سردية الاستقلال في البلدان الأخرى. وتدريجيا أصبح الجيش الباكستاني وصيًا على الأمة، لا خادمًا لحكومتها. فهو الكيان الأكثر تنظيمًا وكفاءة في البلاد. وهو “الضامن الوحيد لتماسك الدولة” في مواجهة الهند والانقسامات الداخلية. بل رأى الجيش الباكستاني نفسه صاحب شرعية الأمر الواقع. فلم يبقَ على الحياد في الصراعات السياسية، وتدخل – كمؤسسة – كل ما رأى ذلك مناسبا. ثم دخل بقوة في المجال الاقتصادي والإداري مكوناً إمبراطورية اقتصادية كبرى، مكنته رغم الانهيار المدني أن يجعل من باكستان قوة نووية. وهذا شديد الشبه بما يحدث حاليا للجيش السوداني.  

فكما أن الجيش الباكستاني كان ملاذ الدولة الأخير، فإن الجيش السوداني كان حامي بيضتها يوم تصدعت أركانها. فلم يتصد الجيش لتمرد المليشيا فحسب، بل تصدى لإدارة البلاد من مركز السلطة المؤقت في بورتسودان. فصار يجيز الميزانية ويدير الإيرادات، ويحدد السياسة الخارجية، فيخاصم باسم السودان ويصالح، ويبرم المعاهدات مع الدول الكبرى – روسيا تارة وأمريكاتارة، ويحدد مصادر السلاح ويدبر الموارد اللازمة لشرائه، ويعين الولاة والوزراء ويفصلهم. كل ذلك دون رقابة مدنية. وللتصدي لهذه التحديات الجسام أسس الجيش شبكات للتمويل الذاتي من صادرات الذهب والرسوم والجمارك وعوائد الشركات التي يمتلكها. وطوّر قدراته ومنظوماته التصنيعية لتبلغ شأوا جديدا يجاري مستجدات الذكاء الاصطناعي. أيضا لم يكن أيا من هذا خاضعا لرقابة مدنية. ولو لم يقم الجيش بما قام به – وخصص له من قياداته ومن بني السودان من بذلوا النفس والنفيس في نكران ذات – لما كان لنا الآن سودان نفكر في استعادة سرديته الوطنية الجامعة. ولتحول وطننا الى امارة لآل دقلو تدور في الفلك الإماراتي. وحيث أن هذا كله اضحى سراً ذائعاً في زمن الواتساب والفيسبوك، ارتفعت شعبية الجيش وبلغت مالم تبلغه قط منذ تأسيس قوة دفاع السودان. إلا أن لكل فعل رد فعل، مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه. ويُخشى أن يقود هذا الوضع لظاهرتين خطيرتين على البلاد. الأولى هي التي تسمى “دولة الجيش”.

والمقصود بهذا المصطلح أن يضحي الجيش القوة السياسية الأولى في الدولة، فتكون الدولة “دولة الجيش” بدلاً من أن يكون الجيش “جيش الدولة”. ويمثل ذلك تهديداً وجودياً للدولة الحديثة ومؤسساتها. فظهور “دولة الجيش” يؤدي الى إضعاف المؤسسات المدنية والديمقراطية واستتباعها. وهذه هي الخطيئة الأصلية التي تُنتج أخطاء وتُغذي مخاطر. فيسيطر الجيش على صنع القرار في القضايا السيادية الكبرى، كالسياسة الخارجية، وميزانية الدفاع، متجاوزا البرلمان والحكومة – ولو كانا منتخبين. ويتم تحييد القضاء، اذ غالباً ما يجد الجيش مدخلا لتطويعه، فيفقد استقلاليته ودوره كحامٍ للدستور. ويخلق الجيش عدوا دائما – مثل الهند في الحالة الباكستانية – يحتاجه الجيش ليبرر تفوق ميزانيته ودوره السياسي. وتنشأ عن “دولة الجيش” دورة سياسية مسمومة. فيقوض الجيش ثقة الشعب بالسياسيين. وتُفكَّك الأحزاب بأن تُشجع الانقسامات والخصومات داخلها. ويخلق ذلك حالة من الشك العام والارتياب تجاه الديمقراطية والحكم المدني. ويُرسخ ذلك للجيش شرعية زائفة تبرر السيطرة العسكرية الدائمة على الحكم. ويؤدي ليس الى زيادة الانفاق العسكري واختلال الموازنات الوطنية فحسب، بل الى اهمال التنمية البشرية بالكلية وتفاقم الفقر والعوز. ففي باكستان وحتى يتمكن الجيش من أن يصبح قوة نووية، تجاوز الإنفاق العسكري جملة الانفاق على القطاعات الاجتماعية مجتمعة. والمفارقة الكبرى هي أن هيمنة الجيش السياسية تُضعف الأمن الوطني الحقيقي على المدى الطويل. اذ ينشغل كبار الضباط بإدارة شئون الدولة وبألاعيب السياسة، فيهملون التدريب القتالي والجاهزية العملياتية للقوات. وفي غياب الحوار المجتمعي الواسع، تُولِّد بعض العمليات العسكرية – مثل التي تجرى في المناطق القبلية – نقمة عامة وتغذي الجماعات المسلحة.  وكما يظهر من التجربة الباكستانية، فإن تحول الدولة الى “دولة جيش” يجعل الدولة هشة، وغير قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها. ويجعل الجيش اللاعب الرئيس الذي يتحكم في مصير الأمة بغض النظر عمن يجلس في القصر الرئاسي. 

أما الظاهرة الثانية التي يُخشى من نشوئها فهي الظاهرة التي تسمى Military Inc. وإذا شئت سودنة هذا المصطلح لقلت ظاهرة “الجيش ليمتد”. طُور هذا المصطلح أصلا لدراسة الحالة الباكستانية، وتولت ذلك أستاذة علم الاستراتيجية العسكرية بجامعة لندن، باكستانية الأصل، عائشة صدّيقه.

و”الجيش ليمتد” ليس توصيفا لحالة من الفساد، وانما هو تشخيص لحالة اقتصادية تقابل الحالة السياسية التي سميناها “دولة الجيش”. حالة يتغول فيها الاقتصاد العسكري على الاقتصاد المدني ويقصيه من القطاعات الحيوية. ولا بد هنا من التفريق بين نموذج “الجيش ليمتد” ونموذج إيجاد شركات للجيش تعمل في مجال التصنيع الحربي وما هو مرتبط به. بل وحتى في غير ذلك من المجالات الاستراتيجية التي يحتاجها الجيش أو يكون فيها رافعة للاقتصاد الوطني. فهذا مما لا غنى عنه لا للجيش ولا للاقتصاد. ولم تطالب “قحت” فيما مضى بخروج الجيش من مثل هذه المجالات الا لإنفاذ اجندة الساعين لإضعافه ممن كانت تدور في فلكهم. وانما نقصد ب “الجيش ليمتد” أن تتحول القوات المسلحة من مؤسسة وطنية للدفاع، الى فاعل يهيمن على الاقتصاد كله. فتنصهر السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية في كتلة واحدة. فلا تنعدم الرقابة المدنية فحسب؛ بل يكون الجيش مستقلا ماليا عن الخزانة العامة، ويستخدم النفوذ الأمني لحماية مصالحه الاقتصادية.  واذا كان الجيش قد اضطر بسبب ما حدث أثناء الحرب من غياب المؤسسات المدنية وتراجع القطاع الخاص لأن يتدخل لسد الفراغ الذي كان لابد من سده، الا أن الاستمرار في هذا النهج بعد الحرب يحول الجيش من مؤسسة دفاع إلى جهاز لإدارة الاقتصاد. وذاك هو التعريف النموذجي textbook definition لمفهوم “الجيش ليمتد” Military Inc.

هكذا نعلم أن الجيش الآن في مفرق طرق. إما أن يختار تكريس”دولة الجيش والجيش ليمتد”، وهو ما أوضحنا مخاطره أعلاه على الجيش نفسه وعلى الوطن؛ وإما أن يقرر أنه جيش الدولة، وأنه لابد من العودة لمدنية الدولة. غير أنه كيف تتأتى العودة لمدنية الدولة بعد كل الذي جرى ويجري. وبعد أن ترسخ ارتباط الجيش بالسياسة وبإدارة الدولة وصار هو الأصل وغيره الاستثناء. وقد يتوجس الجيش من عودة الحياة المدنية، كون ذلك قد يفتح الأبواب لعملاء الشر وأبواقه فيجرّون البلاد مجددا للفوضى. ومن ثم فإنه لا بد أن تكون عودة الجيش بالبلاد الى الحالة المدنية المعتادة سلسة وآمنة. ولن يتأتى ذلك إلا على مراحل. فبعد أن يبلغ انغماس الجيش في إدارة الدولة الدرجة التي نحن فيها اليوم ليس للجيش أن ينسحب دفعة واحدة ليترك فراغا لن تملأه الا الفوضى. وللدول الأخرى تجارب في الانسحابات الآمنة. ومن هذه الدول البرتغال.

في البرتغال قامت ثورة القرنفل عام ١٩٧٤ لاستعادة الديمقراطية، وأطاح الجيش بنظام أنطونيو سالازار. بعد الثورة حكم البلاد مجلس عسكري جمع بين الضباط والمدنيين. ولما شهدت هذه الفترة محاولات لانحراف المسار نحو اليسار – في وقت كانت فيه المواجهة مع المعسكر الشرقي على أشدها – اضطر الجيش لأن يُحكم قبضته على البلاد. فصار مجلس القوات المسلحة (MFA) هو القوة الحاكمة فعليًا. استمر ذلك الحال حتى العام ١٩٧٦.  وكان هناك خوف من أن يتحول هذا النفوذ إلى وصاية دائمة للجيش على الدولة، مثلما هو حادث في باكستان. وفي ذات الوقت نشأ تخوف من أن خروج الجيش من المشهد قد يؤدي الى انهيار الدولة، وربما سقوطها في براثن الاشتراكية والشيوعية.

فتم إقرار دستور جديد في العام ١٩٧٦ جُعلت فيه فقرة عرفت ب sunset clause أي “الفقرة الغروبية”. ذلك أنها تتضمن نصوصاً تنظم وجود الجيش في إدارة الدولة تُلغَى تلقائيا بعد مرور وقت محدد، أو عند حدوث ظرف سياسي معيّن. ومن ذلك، النص الذي جعل لمجلس القوات المسلحة  MFA صلاحيات دستورية مؤقته. ومنها الحق في مراقبة التشريعات لضمان توافقها مع “مبادئ الثورة والديمقراطية”، وحق الاعتراض على قرارات الحكومة في بعض المجالات الأمنية. لكن الفقرة نفسها نصّت على موعد لانقضاء أجل ذلك المجلس، وأن ممارسة صلاحياته تخضع للمراجعة القضائية بعد استقرار النظام الديمقراطي. وبالفعل تم حل المجلس تلقائيا في العام ١٩٨٢بموجب تلك الفقرة. وهكذا مارس الجيش البرتغالي بموجب الفقرة الغروبية دور “الوصي المؤقت” على الدولة. وبسبب هذه الفقرة انسحب انسحابا منظما خاضعا لرقابة القضاء. ثم أعقب ذلك إجراء تعديل دستوري جعل رئيس الجمهورية المدني القائد الأعلى للقوات المسلحة، واُخضع الجيش للحكومة المنتخبة. وبنهاية الثمانينيات أصبحت البرتغال ديمقراطية مدنية مستقرة.

ومثلما ينظَّم خروج الجيش بالدستور ويُمرحل حسب استقرار الأحوال، يجوز أن يَنص الدستور على عودة الجيش مجددا للوصاية على الحياة السياسية إذا ما اختلت الأمور. ويكون ذلك بموجب فقرةشروقية sunrise clause. فيتدخل الجيش بموجب تلك الفقرة عند بروز مخاطر محددة، وذلك لتوجيه الأمور الوجهة الصحيحة المقرة دستورا. ثم ينسحب الجيش، ويخضع تصرفه ذلك للمساءلة القضائية أيضا. ثم أن الفقرة الشروقية نفسها تكون محددة الأجل، أي أنها تنقضي بعد مدة معينة، أو إذا لم تبرز الحاجة لاستخدامها طوال فترة معينة.

وختاما،

القارئ الكريم! ترافقنا على مدى أربع حلقات طوال في جولة استقرأنا فيها صفحات من تاريخنا لننظر كيف فقد شعبنا المعتقد المشترك الذي تولد لديه فجر الاستقلال فأورثنا ذلك ما نحن فيه اليوم من بؤس ومهانة وتشرد. ورأينا كيف أن الشعوب الأخرى إما أن أنضجت سردية الاستقلال منذ الوهلة الأولى وجعلتها نبراسا يهديها، او هي قد عادت اليها في أول فرصة مواتية وجددتها – بعد أن اضمحلت – فنهضت بها بعد تعثر. وعلمنا كيف أن التفافنا حول جيشنا اليوم هو أدعى ما يكون لاستعادة سرديتنا الوطنية الجامعة. وتبينّا أن تفويت هذه الفرصة يعني العودة لسردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي” التي تروج لها الرباعية اليوم في واشنطن. وهي ليست الا سردية ضديةً، انقساميةً، لا تورثنا الا الوبال. وهي الأنشوطة الجديدة لإرجاعنا لأجندة الارتهانوالتبعية التي سادت قبل الحرب. بل تجرّنا لما هو أسوأ مما كان قبل الحرب. اذ أن الحرب، ومثلما أنها قد فتحت باب العودة للسردية الوطنية الجامعة على مصراعيه، فإنها قد فتحت الباب على الهاوية. بل على جُب سحيق ليس له من قرار. ذلك هو “دولة الجيش، والجيش ليمتد”.  ولله عاقبة الأمور.  

اترك رد

error: Content is protected !!