الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

“إفادات فولكر: هل هي شهادة أم ندم أم إعادة صياغة لسردية الحرب؟”

السفير د. معاوية التوم

المقدمة:

بعد عامين من اندلاع الحرب التي مزقت السودان وألقت بظلالها على الإقليم والعالم، خرج فولكر بيرتس – الرئيس السابق لبعثة “يونيتامس” والذي غادرها مكرها على الاستقالة عقب إعلان السودان بانه شخصا غير مرغوب فيه – خرج بمجموعة إفادات مثيرة للجدل. ما قاله لم يكن مجرد تحليل بارد لمجريات الصراع، بل بدا وكأنه اعتراف متأخر، أو ربما شهادة شاهد على مأساة دولة كان مكلفًا بمساعدتها على عبور مخاض الانتقال الديمقراطي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يتحدث فولكر بوصفه مراقبًا محايدًا يقدم شهادته للتاريخ؟ أم أنه مسؤول سابق يحاول التبرؤ من إخفاقاته بتحميل الأطراف المحلية أوزار الفشل؟ أم أنه ببساطة يعيد صياغة السردية الدولية للحرب، التي سعى يومها لتسويق فكرة (الطرفانية) ونسف شرعية الجيش وقيادته للدولة في محاولة لتحديد من يستحق الشرعية ومن ينبغي أن يُقصى المشروع الذي رعاه وسمي بالاتفاق الإطاري؟

هذا المقال يحاول تفكيك هذه الإفادات، وقراءة ما وراء السطور في رسائل فولكر السياسية والأخلاقية، واستشراف ما تعنيه لمستقبل الحرب المفروضة على البلاد بكلفتها المركبة وتداعياتها المستمرة وتبعاتها الجسام .

أولاً: التحول في السردية الدولية – شرعية الجيش مقابل تمرد الدعم السريع
أبرز ما ورد في إفادات فولكر هو إشارته إلى “تغير نسبي في الخطاب الدولي”، حيث بات الجيش يُنظر إليه على أنه الحكومة الشرعية في السودان بعد استعادته للخرطوم، وبعض الولايات الأخرى، بينما يُنظر إلى قوات الدعم السريع كـ”جماعة متمردة وارهابية”.

هذا التحول يعكس:

• انزياحًا في مواقف القوى الكبرى التي كانت خلال العامين الماضيين تتعامل بحذر ومساواة مضللة، متجنبة منح الشرعية لأي منهما.

• اعترافًا ضمنيًا بأن الجيش، رغم التحفظات المصوبة عليه في البنيوية والسياسية، يمثل “المؤسسة الوحيدة الباقية” القادرة على إدارة الدولة السودانية.


  • هذا الخطاب يتناغم مع مواقف إقليمية ودولية بدأت تتشكل، خاصة بعد التقارير المتواترة عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها وما تزال قوات الدعم السريع في دارفور وكردفان وقبلها بالخرطوم وكل موقع وطأته فعالها الشنيعة وجرائمها.
    ثانيًا: نزع الغطاء السياسي عن الدعم السريع
    استخدام فولكر لمصطلحات مثل “مليشيا عائلية” و”قاعدة اجتماعية ضيقة ذات طابع عرقي” يشير إلى مسعى واضح لنزع أي شرعية سياسية عن الدعم السريع، وتقديمه ككيان خارج عن الدولة وغير قادر على تقديم نموذج حكم بديل وهذا ما ناقضه وهو على راس البعثة ومقود السردية الدولية.

هذا التوصيف يوجه رسائل إلى:

• القوى الاقليمية والدولية: بأن الاستثمار السياسي أو العسكري في مليشيا الدعم السريع ومرتزقته وحواضنه ورعاته أصبح محفوفًا بالمخاطر والفشل الحتمي.

• المجتمعات المحلية: للتشكيك في قدرة مليشيا الدعم السريع على تمثيل مصالحهم أو ضمان أمنهم.
ثالثًا: تشجيع الجيش على خيار التسوية
فولكر اعتبر أن شخصية مثل الفريق أول عبد الفتاح البرهان قد تجد في “قبول تسوية مشروطة” خيارًا عقلانيًا في ظل استبعاد تحقيق نصر شامل، لكنه يتعامي عن النصر الفعلي للجيش ومناصريه وكسر شوكة التمرد رغم فارق العدة والعتاد والإسناد اللوجستي والتسويق الاقليمي والدولي .
هذه العبارة تعكس محاولة لدفع الجيش إلى:

• استثمار موقعه الحالي للتفاوض بدل استمرار الحرب، وهي رغبة في تسوية ماكرة تجاوزتها الاحداث والوقائع.

• القبول بتسوية سياسية قد تتضمن إصلاحات واسعة وتفكيك الأجهزة الموازية دون خسارة دوره المركزي. وهذا حلم صرف عليه الوقت والجهد والمنابر المتعددة وأثبت انه لا طائل منه وان السودان عصى على التفكيك والارتهان لاجندات الخارج .

رابعًا: هشاشة التحالفات حول الدعم السريع
وصف تحالف حميدتي مع عبد العزيز الحلو بأنه “مؤقت بطبيعته”، وتأكيده على أن الجماعات المسلحة الأخرى لديها “أهدافها الخاصة” وأنها قد لا تبقى تحت قيادة حميدتي، يهدف إلى:
• تقويض صورة الدعم السريع ككتلة موحدة.

• إثارة الشكوك داخل صفوف حلفائه الحاليين، وتشجيع الانشقاقات. وربما قناعته بأن لا مستقبل لا لحميدتي ولا شقيقه عبّد الرحيم ولا قبول لحمدوك والدولة المدنية تتشكل الان في ثبات ودعم وتوافق منقطع النظير .
خامسًا: إشارات إلى أدوار القوى الخارجية
حديث فولكر عن ميل الكفة الروسية لصالح الجيش بسبب سيطرته على سواحل البحر الأحمر، مقابل اعتبار ليبيا خيارًا أكثر واقعية لقاعدة روسية، يكشف عن قراءة جديدة للتوازنات الجيوسياسية.وربما دعم توجهات ورغبات غربية وغيرها تدرك قيمة ما لدى السودان من موقع جيوسياسي يستطيع استثماره ويوظفه لاجل أمنه القومي والشراكة مع الجوار والاقليم لا يمكن لاحد أن يزايد عليه .
او بغض الرسائل هنا بشارات متعددة:

• لروسيا: “الجيش السوداني شريك أكثر موثوقية”.

• لدول الإقليم: أن استقرار البحر الأحمر يتطلب دعم مؤسسات الدولة القائمة، ويتوجب اعادة النظر في الأطماع التي نسجت و استثمرت في نفخ وتضخيم المليشيا المتمردة بأحلام عصية المنال .

سادسًا: استشراف ما بعد الحرب – إغلاق باب الشرعنة للدعم السريع
إشارة فولكر إلى أن الدعم السريع لم يقدم نموذج حكم، ولم يبذل جهدا في أن يكون بنهج رجال دولة رغم الشعارات التي تسربل بها ، بل ارتكب انتهاكات جسيمة، تعني أن أي ترتيبات سياسية مستقبلية لن تتسع له ككيان قائم بذاته، او شركائه ورعاته، وإنما ربما فقط كجزء من تسوية تفرض عليه حل نفسه أو الانضواء والاندماج تحت مؤسسات الدولة. وهذا هو الخيار الذي تقف عليه الدولة الان ويساندها الشعب في ذلك .
خاتمة: رسائل فولكر بين الواقعية السياسية وضغط المجتمع الدولي

إفادات فولكر تعكس إدراكًا بأن المشهد السوداني قد دخل مرحلة جديدة، تتسم بـ:

• ترجيح كفة الجيش دوليًا وإقليميًا.

• واستبعاد الدعم السريع كشريك حكم مشروع.

• تهيئة الأجواء لتسوية سياسية تضمن بقاء الدولة السودانية موحدة، ولو عبر تنازلات لاجل اطراف الداخل والرصيف لا مجاميع قحت وتقدم وصمود وتأسيس والحكومة الموازية اياها.
إفادات فولكر المتأخرة ليست نصوصًا بريئة؛ فهي تكشف سطحيته وجهله وتضليله بل كذبه، كونها تحمل في طياتها مزيجًا من الشهادة والندم وربما المناورة السياسية وتدوير واعادة انتاج اسمه ورفاقه في المغامرة على ما لفه من خزي ومرارات جراء السقطة الأخلاقية والسياسية التي طوقته وعصفت بتاريخه في لحظة بدا فيها المشهد السوداني أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. يبدو أن الرجل يحاول إعادة رسم ملامح الحكاية والسردية التي كم تفنن وراوغ لأجل تثبيتها وتسويقها لكنها لم تصمد : فأثر الظهور في ثوب (ثعلب حكيم ). واجلت الايام حقيقة من هو المتمرد ومن هو الشرعي؟ من هو الضحية ومن هو الجاني؟ ومن يستحق الدعم الاقليمي الدولي ومن ينبغي فضحه و عزله ومحاسبته!؟
لكن بين سطور هذه الإفادات، يلوح أيضًا إدراك مرير لفشل بعثة “يونيتامس” ومنظومة قحت في تفويض البعثة المتعجل لحماية المدنيين أو تسهيل انتقال حقيقي نحو السلام والاستقرار . ولعل هذا ما يجعل الكثيرين في السودان يتساءلون: هل كان فولكر جزءًا من الحل أم جزءًا من المشكلة وتعقيداتها التي جلبت الحرب والدمار والخراب والمعاناة لشعب أبي!؟وهو شريك أصيل للتمرد وداعميه الكثر.
في كل الأحوال، فإن هذه التصريحات تؤكد أن الحرب لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل باتت أيضًا ساحة معركة دبلوماسية وإعلامية على الرواية والشرعية، حيث يسعى الطرف الخاسر – محليًا ودوليًا – إلى فرض سرديته على التاريخ، والدولة السودانية وشعبها بقتالهم وصمودهم وصبرهم على مكاره فتنة فولكر هي من كتبت الرواية الحقة في نهايتها ليسقط الشعار الكذوب من أطلق الرصاصة الاولى، يوم سقط فولكر بالإقالة!؟

اترك رد

error: Content is protected !!