تمضي الفترة الانتقالية في السودان، بخطى وئيدة، نحو تمديد جديد بموجبه ستبلغ من العمر الانتقالي عتياً، وربما سيجد القائمون على هندستها أنهم مضطرين للاعتراف مجدداً أنهم إنما يؤسسون لشئ ما، سَمهِ إن شئت “سوداناً جديداً” أو سوداناً بلا إسلام وبلا إسلاميين، وهي المهمة التي كان قد انتدب لإنجازها الدكتور عبد الله حمدوك في العام 2019 لكنه فشل، ويجري الآن البحث عمّن يكون مناسباً لاستكمال المشوار!!
في أغسطس 2019 جرى وضع اللمسات الأخيرة على خطة إعادة صياغة الأوضاع في السودان إثر سقوط حكم الإنقاذ، وللتذكير فقد أشرف على تلك اللمسات مجموعة الترويكا الغربية وحلفاؤهم الإقليميون والذين تولوا كِبَر ترميم اتفاقٍ سياسي بين المجموعة العسكرية التي قادت الإنقلاب في أبريل من ذلك العام وبين عناصر محلية تقودها مجموعة ناشطين وقادة أحزاب يسارية إقصائية، حيث أنتج هذا الهجين غير المتجانس ما عُرف بالوثيقة الدستورية.
وبعد إجازة تلك الوثيقة وصل “المؤسس” من مهجره وبدأت خطوات “التأسيس” بإعادة صياغة المنظومة التعليمية والتشريعية في السودان بحيث يتم استبدال الهوية الثقافية والقيم الغالبة للمجتمع السوداني بهوية وقيم متسقة مع آخر صيحات القيم الغربية الداعية إلى إلغاء الموروث الأسري وإباحة المحرمات وحرية الشذوذ وخلاف ذلك من قيم الليبرالية الجديدة، كما بدأت خطوات ما سُمي بإعادة إدماج السودان في المنظومة الدولية، سواء من خلال التطبيع مع إسرائيل أو بدفع الفدية المالية التي تم تخصيصها لرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، أو من خلال انخراط البلاد اقتصادياً في تنفيذ وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين.
لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الخلاف يدب بين الشركاء الذين رسى عليهم عطاء قيادة الفترة الانتقالية وإنجاز مشروع التغيير المنتظر، بعد أن تَوَهم كل واحدٍ منهم أنه المالك الفعلي لمشروع التغيير، وحينما استعصى الفتق على الراتق، أضطر المُلاّك الحقيقيون لإعطاء الضوء الأخضر لفض تلك الشراكة غير المنتجة؛ ومنذ ذلك التاريخ والأطراف المختلفة تبحث عن “الدليل الإرشادي” الذي سيتم بموجبه ترسية العطاء على فريق جديد، أكثر تأهيلاً، حتى ظهر علينا السيد فولكر بيرتس بمشروع مشاوراته التي قال إنه سينخرط فيها جميع من أسماهم الفاعلين الرئيسيين، حتى بلغت مبادرات حل الأزمة الآن نحو سبع أو يزيد !!
هذا هو السياق الذي خرج علينا فيه، قبل يومين، ممثل المجموعة المالكة للنصيب الأكبر من مشروع التغيير، السيد فولكر بيرتس، ليكشف جانباً من دليله الإرشادي الذي يتعين على أصحاب المبادرات الاسترشاد بما جاء فيه من خلال ما أسماها “ورقة تلخيصية : مشاورات حول عملية سياسية للسودان”، وقد كان لافتاً أن المشاورات التي هندسها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة دعم الانتقال، تربط ربطاً وثيقاً بين انتهاء الفترة الإنتقالية وبين ما أسماه المهام التي يتعين إنجازها قبل تلك النهاية، وهنا أقتبس: (وقد تفاوتت الآراء حول مدة الفترة الانتقالية بين سنة وست سنوات بما في ذلك الإبقاء على الانتهاء في 2023، مع تفضيلٍ قويّ لفترة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات، لكن أكد البعض أنه سيكون من السابق لأوانه تحديد جدول زمني صارم لاستكمال مهام العملية الانتقالية لأن الإطار الزمني المناسب يجب أن يكون مرناً ومرتبطاً بالمهام التي يتعين إكمالها خلال الفترة الانتقالية).
لست هنا بصدد الدخول في تفاصيل “الورقة التلخيصية” ولا بالبحث وراء “أصحاب المصلحة” الذين استقبلتهم البعثة الأممية للتشاور بشأن الخروج من المأزق الذي أوقع فيه ناشطو قحت كفلاءهم، لكني معني بعبارات التوصيف الفضفاضة التي صاغت بها البعثة تقريرها من شاكلة “الأغلبية الساحقة”، رغم علمي أن ذلك مما تقتضيه طبيعة المهمة الموكولة للبعثة ومتطلبات المسرح الذي رسم الكفلاء حدوده وهندسوا ديكوره، وأصبحوا بالتالي هم الطرف الذي يحدد المهام التي “يتعين إكمالها خلال الفترة الإنتقالية” تساعدهم في ذلك قوى سياسية محلية اختارت لنفسها أن تنخرط في تنفيذ أجندتهم، ومعني كذلك بالتعليق على بعض ما جاء في الدليل الإرشادي أو إن شئت سمه “كراسة الشروط الجديدة” التي تريد بها البعثة، ومن يقفون وراءها، إعادة هندسة الفترة الإنتقالية.
في الورقة الإرشادية زعمت البعثة الأممية أن استشاراتها خلصت إلى “توافق على ضرورة استمرار استبعاد حزب المؤتمر الوطني من المشاركة في هذه العملية الإنتقالية”، هكذا وبعبارات غامضة، تريد البعثة أن تعزل المؤتمر الوطني من المشاورات حول قانون الإنتخابات وحول صناعة الدستور وحول كيفية حكم السودان، وكأن المؤتمر الوطني أو المنتمين له من كوكب آخر وغير معنيين بالكيفية التي يراد بها تقرير مستقبل بلادهم وكيفية حكمها !!
قلت من قبل، وأكرر هنا، أن البعثة الأممية وبتواطؤ من السلطة الحاكمة، غير جادة في دعم تحول ديمقراطي حقيقي، بدليل أنها منذ وصولها الذي مضى عليه أكثر من عام، لم تبذل جهداً مقنعاً لتهيئة الأوضاع في البلاد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مقبولية ومصداقية. ولا شك أن الأطراف التي تولت السلطة تتحمل ذات القدر من الاتهام وربما أكثر، بدليل أن هذه الأطراف – وقد انقضت الآن ثلاث سنوات من عمر الانتقال أو كادت – لم تُرسِ سلاماً شاملاً ولا حرية كاملة ولا عدالة مستقيمة، ولا أظنني بحاجة إلى إيراد شواهد على الفشل في إنزال أبرز شعارات التغيير على أرض الواقع، ويكفي أن نشير إلى أن مؤسستي التشريع والقضاء معطلتين و تتحكم في أدوارهما السلطة التنفيذية ، منذ عهد حمدوك وإلى يومنا هذا، وأن السلام مازال غير قادر على الوقوف على رجليه !!
الآن يحاول الكفلاء – عبر البعثة – أن يمهدوا للوصول إلى وثيقة دستورية جديدة بموجبها تبدأ فترة انتقالية جديدة يرتبط أجلها ب “إنجاز مهام الإنتقال” غير المسماة أصلاً، أو تلك التي يتوقف إنجازها على توفر الإرادة السياسية لدى طرفي معادلة السلطة، وهم هنا طرف خارجي يحاول أن يملي رغبته على طرف داخلي، بينما الطرف الداخلي غير قادر على لجم التدخل الخارحي. وقد اقتضت محاولة التمهيد هذه أن تستمع البعثة إلى قائمة طويلة من الأطراف المشمولة برضاها السياسي وتخرج علينا بورقتها التلخيصية المشار إليها، لتكون هي – الورقة – بمثابة الدليل الإرشادي أو الإطار المرجعي الذي يتعين على أصحاب المبادرات أن يعدلوا في عروضهم لتستجيب إلى القدر الأكبر مما جاء فيه، مع إن صاحب العطاء ليس ملزماً بقبول أعلى العروض !!
لا شك أن جميع السودانيين هم أصحاب مصلحة في إنجاز مهام الانتقال وتحقيق التحول الديمقراطي، والحال هكذا، يتعين أن تكون البعثة أكثر شفافية وأكثر التزاماً بمقتضى المواثيق الدولية التي تساوي بين الناس في الحقوق وأن تلغي من قاموسها عبارة “أصحاب المصلحة” وأن تعمد مباشرة لتحديد مهام الإنتقال التي ستدعمها بشكل دقيق. وعلى السلطة الحاكمة أن تسمي أجلاً قطعياً لنهاية الفترة الإنتقالية، ثم تشرع دون إبطاء في إنفاذ مطلوبات الإنتقال وعلى رأسها إكمال المؤسسات التي وردت في الوثيقة المخرومة، وإلا فستظل “شروط قبول العطاءات” هذه متحركة، ولن تقف حساسية الخارج عند حد عزل “الوطني” بل ستتعداها إلى “الوطنية” فيبقى متحكماً في الأجندة الوطنية كلها، وسينتهي بنا الحال إلى ما انتهى إليه في البلدان التي أصبحت مضرب الأمثال.
كاتب صحفي وسفير سابق *