العبيد احمد مروح
أقرب توصيف يمكن أن يُعبِّر عن ما يجري في السودان منذ نحو خمس سنوات هو القول بأنه “محاولات متكررة لإخضاع الإرادة الوطنية إلى قوىً أجنبية”، وهو ما كان يُسمى في قرون سابقة ب “الإستعمار”. وقد اتخذت هذه المحاولات عدة أشكال كانت الحرب التي تعيشها بلادنا الآن آخر تمظهراتها .
تدخل الحرب الآن شهرها التاسع، وتبدو بعض معالمها التي كانت غامضة آخذة في الاتضاح، خاصة وقد توثقت الدلائل المادية للأطراف التي تقدم الدعم العسكري واللوجستي للمتمردين، وكذلك الأطراف التي تساند التمرد سياسياً سواء من القوى الداخلية أو القوى الخارجية التي كانت تزعم أنها تدعم تحولاً ديمقراطياً في السودان بعد التغيير الذي حدث في أبريل ٢٠١٩.
يعتبر السودان، بحدوده الجغرافية الحالية – بما في ذلك جمهورية جنوب السودان – دولة حديثة التكوين لا يتعدى عمرها القرنين. وخلال عمرها القصير هذا تعرضت للغزو الخارجي المباشر مرتين وتم إستعمارها لما يفوق القرن بعقدين من الزمان.
كانت المرة الأولى في العام ١٨٢٠ عندما قرر محمد علي باشا، حاكم مصر عن الدولة العثمانية، تجريد حملة عسكرية لضم السودان إلى مناطق نفوذه، وقد كانت أبرز دوافعه من وراء ذلك هو البحث عن الذهب والرجال المقاتلين كما ورد في كتب التأريخ، إذ المعروف عن أرض السودان من قديم الزمان أنها غنية بالذهب الذي يتوفر قريباً من سطح الأرض، وغنية بالرجال الذين يمكن تجنيدهم كمقاتلين أشداء.
في المرة الثانية كان الغزو بريطانياً بغطاء من خديوية مصر، وكان للثأر لمقتل غردون والقضاء على الدولة المهدية حديثة التكوين، فقد ثبت أنها – المهدية – تفكر في أن يمتد نفوذها لما وراء حدود السودان، وقد دام ما عُرف بالحكم الثنائي لنحو ٥٦ عاماً، عملت خلالها بريطانيا على توظيف أراضي السودان ومياهه لزراعة وتوفير القطن لمصانع النسيج في لانكشير واجتهدت في أن تؤهل نخبة من أبناء البلاد لتجعلهم يقتدون بها في حكم بلادهم ويرتبطون بها ارتباطاً روحياً حتى بعد أن يعود رجالها إلى جزيرتهم !!
يُدرك الإنجليز والفرنسيون والألمان والأمريكان والإسرائيليون، بشكل دقيق، الإمكانات المهولة من الثروات التي يتمتع بها السودان، سواء منها ثروات ما هو فوق الأرض أو ثروات باطن الأرض، ويدركون كذلك أنه إذا ما أصبح بوسع شعب السودان إستغلال ثرواته وتوظيف خيرات أرضه، تحت حكم رشيد، فسيصبح للسودان تأثير عظيم في محيطه الإقليمي، إفريقياً كان أو عربياً، وهو ما يخشونه، ولذلك عملوا بكل ما استطاعوا على خلق أنواع متعددة من الفتن بين مكونات الشعب السوداني، وعلى خلق عدم استقرار سياسي يلازم الأنظمة التي تعاقبت على حكمه منذ أن نال استقلاله، وحققوا في ذلك نجاحات غير منكورة !!
لم يكن السودان بعيداً عن مخططات إعادة رسم خرائط المنطقة، بعد مرور قرن على الخرائط التي رسمها كلٌ من سايكس وبيكو (بريطانيا وفرنسا)، ولا عن الرؤية الإسرائيلية – الغربية للشرق الأوسط الجديد، بل الصحيح أنه كان في صلبها، وفي هذا السياق أتى الحصار الاقتصادي الأمريكي على نظام الإنقاذ والذي استمر لأكثر من ربع قرن، وأتى فصل جنوب السودان، واستمرت محاولات خنق وإخضاع ما تبقى من البلاد للإرادة الخارجية فجاءت ما سُمي ب “ثورة ديسمبر” بحمولاتها المتعددة والمتناقضة وأبرزها البعثة الأممية “يونيتامس” التي حاول المخططون من خلالها بسط الهيمنة الأجنبية من خلال إعادة هيكلة أوضاع البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فلما فشلت كل تلك المخططات قرروا أن ينفذوا خطة إخضاع السودان، وإعادة هيكلته، عن طريق القوى الجبرية والعمل المسلح فكانت حرب أبريل ٢٠٢٣م !!
مَن لا يزال يعتقد أن الحرب التي تعيشها بلادنا الآن هي شأن داخلي متعلق بطموحات سياسية أو مظالم تاريخية، ولم يستطع تمييز الأثر والنفوذ الأجنبيين فيها حتى الآن، عليه أن يُراجع حساباته، فهو إما مُساق إلى وجهة لا يعلمها أو جزء من أدوات تنفيذ الخطة نفسها.
والحال هكذا، فإن على السودانيين – حكاماً ومحكومين – أن يوحدوا صفهم وينسقوا جهدهم لتحرير بلادهم من أقصاها إلى أدناها من الإستعمار الجديد وتوابعه، وأن يتفقوا، دون تدخل خارجي، على رسم مستقبل بلادهم بحيث تصبح بالفعل حرة ومستقلة وناهضة يفخر ويفاخر بها كل أبنائها ممن لم تحدثهم أنفسهم بخيانتها.