الرواية الأولى

نروي لتعرف

الأخبار

إسرائيل وإيران: حرب الأهداف الاستراتيجية والتكتيكات القتالية

بقلم: د. أسامة محمد عبدالرحيم

لم تعد الحرب بين إيران وإسرائيل مجرد مواجهة عسكرية محدودة، بل تحولت إلى حرب مركّبة متعددة الأوجه تُدار على مستويات استراتيجية وتكتيكية متعددة و متداخلة ، وتمتد من الجغرافيا إلى المجال السيبراني، ومن المعارك النظامية إلى المواجهات غير المتكافئة، ومن الطائرات والمسيّرات إلى الجواسيس والاغتيالات. هي حرب تُستخدم فيها كل الأدوات المتاحة( العسكرية، والسياسية، والمجتمعية، والاقتصادية، والنفسية) ، وتُوظف فيها أحدث نظريات القتال والهندسة القتالية و العسكرية والسياسية. لذا نجد أن هذه الحرب تعكس صراعًا مفتوحًا بين مشروعين، ومجالين حيويين، ونمطين متضادين من التفكير الأمني والاستراتيجي، ما يجعلها حربًا نموذجية للدراسة و البحث ، كما أنها تشكل كذلك نقطة تحول كبرى في أنماط النزاعات الإقليمية والدولية.

اولا: الأهداف السياسية والعسكرية لكل طرف:

1.ان أي حرب تتأسس مبدأً على أهداف سياسية و أهداف عسكرية ، ويُسند تحقيق هذه الأهداف إلى استراتيجيات كبرى وتكتيكات قتال محددة.عليه وفي هذه الحرب تحديداً، نجد أن اهم الاهداف العسكرية لكل طرف تتمثل في الآتي :
أ.تهدف إسرائيل و بشكل حاسم إلى:
_ إيقاف بل تحطيم المشروع النووي الإيراني الذي يشكل تهديداً عسكرياً وأمنياً عليها. وقد تجلّى ذلك بوضوح في الضربات الجوية التي نفذتها الولايات المتحدة – حليفة إسرائيل – فجر اليوم الأحد 22 يونيو 2025 على ثلاث منشآت نووية إيرانية (فوردو، نطنز، وأصفهان) باستخدام قاذفات B-2 الشبحية العملاقة و صواريخ كروز (توماهوك) ، ما يعكس جدية التحالف في تدمير البنية النووية الإيرانية، وليس فقط احتوائها.
شل القدرات العسكرية لشبكة حلفاء طهران بالإقليم (حزب الله، الحشد الشعبي، الحوثيين…). فرض نوع و درجة من الردع المستدام والتفوق السيبراني والجوي على ايران .
_حماية أمنها الداخلي وطمأنة مجتمعها.

ب. اما ايران فنجد أنها عسكرياً تستهدف :
كسر التفوق العسكري الإسرائيلي. إرباك المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، خصوصًا القبة الحديدية.
_حماية بنيتها النووية والتقنية، وبناء توازن ردع جديد يحسب له في ميزان القوى.

2.كذلك و في نفس سياق هذه الحرب ، تختلف الأهداف السياسية لكل طرف بحسب استراتيجيته الكبرى، موقعه الجغرافي، طبيعته الأيديولوجية، وتحالفاته الإقليمية والدولية،حيث يمكن تلخيص اهم الأهداف السياسية في الآتي :
أ. الأهداف السياسية لإسرائيل و تتمثل في الاتي:
_ منع إيران من امتلاك سلاح نووي، حيث ان الهدف الجوهري والسياسي الأول، الذي يحظى بتوافق داخلي إسرائيلي ودعم دولي (لا سيما أميركي)، هو منع إيران من التحول إلى قوة نووية، لما يشكله ذلك من تهديد وجودي محتمل لإسرائيل.
_ إضعاف محور المقاومة حيث تعمل إسرائيل على تقويض نفوذ إيران الإقليمي من خلال إضعاف أو تفكيك شبكة وكلائها: حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحوثيين في اليمن، وحركة الجهاد الإسلامي وغيرها في فلسطين.
تحقيق الردع الاستراتيجي، حيث تسعى إسرائيل إلى ترسيخ صورة الردع لمنع أي هجمات مستقبلية على أراضيها، خاصة من جبهات متعددة (جنوب لبنان، الجولان، غزة، العراق). كسب التفوق الإقليمي والعسكري بالحرب المباشرة أو عبر الهجمات الموضعية، اذ ان إسرائيل تريد أن تثبت أنها القوة العسكرية والتكنولوجية الأعلى في الإقليم، بما يضمن لها موقع القيادة في النظام الإقليمي الجديد الجاري تشكله بعد 2020.
إعادة بناء التحالفات الإقليمية، ليتم ذلك عبر إبراز “التهديد الإيراني”، لذا نجد ان إسرائيل تسعى إلى تقوية علاقاتها مع بعض الدول العربية والخليجية، وربما جرّها نحو تعاون أمني أو حتى دعم ضمني في مواجهة طهران. تعزيز التماسك الداخلي، تلجأ بعض الحكومات الإسرائيلية إلى التصعيد مع إيران كأداة لتوحيد الصف الداخلي، خاصة في ظل أزمات سياسية أو احتجاجات داخلية، عبر خلق “عدو خارجي”.

ب. اما الأهداف السياسية لإيران، فتبدو واضحة في :
تكريس إيران كقوة إقليمية كبرى، اذ ان الهدف المركزي للقيادة الإيرانية هو تثبيت دور إيران كقوة مهيمنة في الإقليم، سواء عسكريًا أو عبر النفوذ السياسي والثقافي، من خلال مشروع “محور المقاومة”. كسر الطوق الإسرائيلي – الأميركي، اذ ترى إيران في وجود إسرائيل والوجود العسكري الأميركي في الخليج تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. لذا تسعى إلى توسيع عمقها الاستراتيجي وتطويق إسرائيل بحلفاء ووكلاء.
_ الحفاظ على برنامجها النووي، اذ تعتبر طهران أن امتلاك المعرفة النووية ورفع سقف التخصيب هو ورقة تفاوض سياسية وأداة ردع، حتى لو لم تُنتج سلاحًا نوويًا فعليًا.
_ إضعاف إسرائيل وإشغالها على جبهات متعددة
الهدف من دعم الجماعات المسلحة المحيطة بإسرائيل هو تحويل إسرائيل إلى دولة قلقة أمنيًا، وغير قادرة على الاستقرار أو المبادرة سياسيًا أو عسكريًا.
_ تعزيز شرعية النظام داخليًا، حيث يستخدم النظام الإيراني الصراع مع “الشيطان الأكبر” و”العدو الصهيوني” كأداة لحشد الداخل وشرعنة القبضة الأمنية في مواجهة المعارضة أو الضغوط الاقتصادية.
_ فرض معادلات ردع جديدة، حيث تريد إيران إقناع العالم بأنها قادرة على الرد، وأن الهجوم عليها سيقابل بحرب إقليمية واسعة، ما يضع حدودًا أمام أي مغامرة عسكرية إسرائيلية أو أميركية ضدها.
__زرع الرعب والقلق في المجتمع الإسرائيلي و خلخلة مظاهر استقرار الامن الداخلي .

ج.يمكن القول و بشكل عام ان إسرائيل تسعى لحسم استباقي وقاطع يمنع إيران من التحول لقوة نووية ويُضعف نفوذها في الإقليم. في حين ان إيران تسعى لفرض وقائع استراتيجية جديدة تُكسبها هيبة وتوازن ردع مع إسرائيل، وتعزز نفوذها في “الهلال الشيعي” ، إنها حرب سياسية بامتياز، تدور بوسائل عسكرية وأمنية وإعلامية، ولكن جوهرها هو الصراع على قيادة المنطقة، وإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي.

ثانيا: التحشيد الإيراني كخيار استراتيجي طويل النفس:

1-اعتمدت ايران و بشكل عميق و منهجي اسلوب ( التحشيد الشامل) في سياساتها و استراتيجياتها العليا(و نركز هنا على التحشيد البشري و الجماهيري، و التحشيد العسكري من حيث العتاد و السلاح، و التحشيد العلمي)، وتجلّى ذلك فيما يلي:

أ. التحشيد البشري: من خلال تعبئة مجتمعية وإعلامية عقائدية مستمرة خلقت استعدادًا وطنيًا نفسيًا طويل الأمد.
ب. التحشيد العسكري:بما تمتلكه من قواعد صناعية دفاعية و رصيد متنامي و مخزونات كبيرة في السلاح و العتاد التقليدي و النوعي ، مع انتهاج ذات نهج التحشيد في استخدام هذا السلاح و العتاد و الذي ظهر جليا في إطلاق ايران رشقات وزخات جوية من المسيّرات والصواريخ البعيدة المدى بهدف استنزاف الدفاعات الإسرائيلية .
ج. تحشيد العلمي: الإكثار للكادر البشري من العلماء في المجالات الحساسة و التخصصات النادرة و النوعية، وخاصة النووية، وتنويعهم جغرافيًا ومهنيًا.

ثالثاً: استراتيجية نثر الحلفاء في المجال الحيوي :

1-اعتمدت إيران سياسة و استراتيجية نثر الحلفاء الاستراتيجيين والمواليـن حول المجال الحيوي الإسرائيلي بما يشكل جغرافياً طوقاً امنياً يحيط باسرائيل ، و يبدو ذلك في( حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحرس الثوري في سوريا، جماعة الحوثي في اليمن)

2-أسهم هؤلاء الحلفاء بفاعلية في الحرب، عبر التدخل القتالي المباشر وليس فقط الدعم اللوجستي أو الاستخباراتي، مما فتح جبهات متعددة ووسّع دائرة الاستنزاف الإسرائيلي.

3- بالنسبة لإسرائيل، يجدر الاشارة للدور الامريكي الكبير في اسناد ربيبتها اسرائيل بشكل علني و صريح سياسيا و عسكريا، اسنادا فنيا و لوجستيا من خلال الدعم المباشر و السافر و غير المنقطع طوال فترات المعركة و الذي بلغ قمته بالتدخل المباشر و توجيه ضربات جوية لاهم ثلاثة مواقع نووية إيرانية( في نطنز وفوردو وأصفهان).

رابعاً :حرب التجسس، بنك الأهداف، وتصنيفات الجيل الخامس:

1.تعد الحرب الجارية من أبرز نماذج حرب التجسس الحديثة، حيث استخدم فيها:
أ. التجسس البشري عبر عملاء مزروعين في البُنى الحساسة و المواقع الحيوية.
ب. التجسس التقني: من خلال اختراق شبكات القيادة، تعطيل الأنظمة، الاستيلاء على بيانات عسكرية.

2- تشكّل على ضوء ذلك بنك أهداف مركز ومكثف يتم تحديثه دورياً. وهذا ما يجعل الحرب تنتمي إلى حروب الجيل الخامس (5GW)، التي تُدار بأدوات غير نمطية، وتستهدف تدمير بيئة الخصم أكثر من مجرد إسقاطه عسكريًا و سياسياً.

خامساً:التدرج والتمرحل في الاستراتيجية الإيرانية:

1.انتهجت إيران استراتيجية التدرج والتمرحل في استخدامها لانظمتها القتالية و عتادها و اسلحتها ، ولم تكشف أوراقها دفعة واحدة،حيث (بدأت بضربات محدودة و تمهيدية، ثم اختبرت قدرة إسرائيل على الرد، ثم انتقلت تدريجيًا إلى مرحلة الإغراق والتشتيت) .

2- وظفت ايران أدوات و عتاد و منظومات منخفضة الكلفة لتحقيق نتائج كبيرة الأثر عالية الكلفة ، وهذا هو جوهر استراتيجية الكلفة الاقتصادية الاقل، ومع ذلك فإن الضربات الأميركية الأخيرة على منشآت فوردو ونطنز وأصفهان تمثل ضربة عكسية موجعة لهذه الاستراتيجية، إذ كبدت إيران خسائر فنية هائلة في البنية التحتية النووية التي بنتها بتكلفة باهظة وعلى مدى سنوات، مما قد يجبرها على إعادة تموضع وتعديل تكتيكاتها.

سادساً: التبادل الجوي والسيطرة على السموات:

أصبحت السماء ساحة مفتوحة لمعركة الإرادات:
فإيران استخدمت زخّات مكثفة من الصواريخ والمسيّرات و بمعدلات محسوبة بدقة، و إسرائيل اعتمدت على الضربات الدقيقة والمناورات الجوية الكثيفة، و كلا الطرفين سعى إلى تدمير الدفاعات الجوية للطرف الآخر وشل قدراته القيادية.

سابعاً:التكتيكات القتالية (أدوات الاشتباك الميداني المباشر) :

1- رغم الطابع الاستراتيجي للحرب، فإن التكتيكات القتالية شكّلت الأساس التنفيذي في ميدان المعركة بما يخدم و يحقق الاستراتيجيات الموضوعة، و نُبرز ذلك في :

أ. التكتيكات الإيرانية و التي اعتمدت نهج:
الإغراق الجوي: عبر المسيّرات والصواريخ، لإرباك أنظمة الدفاع لدى إسرائيل . التشتيت المكاني والزمني: استخدمت ايران ضربات غير متزامنة من محاور متباعدة.
التمويه الإلكتروني والتخفي الراداري: لتجاوز الرصد والإعاقة خاصة الانظمة التقنية المتطورة لدى إسرائيل . التدرج والتمرحل في إظهار القوة:كان هذا تكتيكاً ايرانياً ناجحاً هدف لامتصاص الضربات الأولى وتحييدها تدريجيًا، ثم العمل على استنزاف و انهاك المنظومات و المخزونات الإسرائيلية من الذخائر و الصواريخ.
_استخدام وسائل و تقنيات و تكتيكات قتالية ذكية و غير تقليدية تفاجئ الخصم و تربكه.

ب. التكتيكات الإسرائيلية و التي تمظهرت في :
الضربات الدقيقة الذكية: حيث قامت إسرائيل باستهداف نوعي عالي الدقة لعدد من المواقع الحيوية و الاستراتيجية الايرانية و كذلك الشخصيات الهامة. تكتيك “القطع النظيف”: هجمات بأقل خسائر جانبية لتجنب التصعيد.
المناورة الجوية الكثيفة: لإرباك شبكة الرادارات الإيرانية. الحرب الرمادية: تنفيذ عمليات غير معلنة لتفادي ردود فعل مباشرة.

ثامناً: شل القدرات الحاضرة والمستقبلية:

عمل الطرفان على شلّ قدرات الخصم في الحاضر، وضمان تقويض مستقبله:
أ. إسرائيل استهدفت القادة العسكريين والعلماء النوويين و كذلك المواقع العسكرية و النووية .
ب. إيران ضربت المنشآت والمنظومة النفسية والاقتصادية والاجتماعية و العسكرية.
ج. كل طرف سعى لحرمان الآخر من الاستمرار في بناء قوته وتطوير منظوماته.

تاسعاً: المجتمع بين التفكك والصمود

1.أثبتت الحرب أنها أيضًا صراع على البنية و الكتلة المجتمعية:
أ. إسرائيل تعرّضت لهزّة مجتمعية( مظاهرات، هروب و مغادرات للبلاد، فقدان ثقة في المنظومة الحاكمة) .
ب. إيران أظهرت تماسكًا نسبيًا بفضل التعبئة السياسية و العقائدية المستمرة و بفضل الخطاب التعبوي المتماسك.
ج. اسرائيل ركزت علي استهداف بعض الرموز المجتمعية الايرانية من القادة العسكريين و العلماء و التخلص منهم اغتيالا و قتلا اما ايران فركزت على استهداف القواعد المجتمعية من عامة الشعب الإسرائيلي فاصابتهم و افزعتهم و اجبرتهم على البحث عن سبل الهروب و المغادرة و التزام الملاجيء و التظاهر و لوم حكومتهم منددين و شاجبين.
د. إن ما بنته إسرائيل في تأسيس نظام امن مستقر لشعبها يبعث الطمأنينة و الشعور بالامان هدته ايران بنجاحها في تحقيق جملة من اهدافها العسكرية و السياسية ، و على العكس تماما نجد ان ايران على مستوى شعبها تبدو معتادة على الحروب و القتال (نظرا للتعبئة العامة المستمرة) التي يعيشها الشعب الايراني في ظل منظومته الحاكمة.

عاشراً:سجل الاغتيالات (شل القيادة بالعقل والسلاح) :

1.مارست إسرائيل سياسة الاغتيالات الجماعية، المتزامنة والمنفصلة، واستهدفت بها:
أ. قادة العمليات العسكرية(و بذلك اضعفت إسرائيل القيادة العسكرية الايرانية لمعركة الحاضر مع ايران) .
ب. العلماء النوويون، خصوصًا الفاعلين في المشروع النووي الايراني(و بذلك تمكنت إسرائيل من اضعاف البنية القيادية الايرانية لمعركة المستقبل المحتملة و المتوقعة مع ايران) .

2.تشير الاحصائيات الى ان عمليات الاغتيال لشخصيات تمثل خطرا علي اسرائيل و التي قامت بها إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية ، تُقدَّر بأكثر من 2700 عملية اغتيال، مما يجعلها تمتهن الاغتيال و تنتهجه كأداة أساسية و استراتيجية في هندسة الصراع مع الخصوم .

ختاما :

يمكن القول، ان هذه الحرب ما هي الا صراع للإرادات و محاولة عنيفة لإعادة تشكيل المنطقة، حيث ان ما يجري اليوم بين إسرائيل وإيران يعد أكثر من معركة تكتيكية، إنه صراع وجودي ممتد على الردع و الهيمنة و السيادة على الفضاءات و المجالات الحيوية. ان كلا الطرفين استخدم أدواته بإتقان نسبي، ولكن الميدان ما يزال مفتوحًا، والاستراتيجيات في طور التعديل، بينما يتشكّل شرق أوسط جديد تُعاد فيه صياغة موازين الردع، والتحالفات و المحاور، و كذلك مفاهيم الأمن الجماعي والمصالح. كما ان التدخل الامريكي المباشر و الضربات الأميركية الأخيرة على منشآت إيران النووية يعد مؤشرًا خطيرًا على تحول الحرب إلى مرحلة كسر العظم بين الحلفاء والخصوم، ويجعل من احتمال تطورها إلى صراع إقليمي شامل تُعاد فيه كتابة قواعد الصراع امراً وارداً .

الأحد 22 يونيو 2025

اترك رد

error: Content is protected !!