(١)
بعد أسبوعين، سيُكمل السودانيون ثلاث سنواتٍ وثلاثة أشهر بعد سقوط نظام الإنقاذ، وقد كانت الحجةُ الأساسية التي استند عليها معارضو النظام وتمت بموجبها تعبئة قطاعاتٍ واسعةٍ مِن الشباب وغيرهم للخروج ضده هي الرغبة في التغييرِ والانتقالِ من نظامٍ وُصف بأنه شمولي إلى نظامٍ ديمقراطي تعددي حقيقي. وقد قيل وقتها أن السودانيين موعودون بأن ينعموا بما يطمحون إليه من حريةٍ وسلامٍ وعدالةٍ، ورغدٍ في العيشِ بمجرد سقوط نظام الإنقاذ، ولهذا جاء خصوم النظام بشعارهم المشهور “تسقط بس” ولم يكونوا على استعدادٍ لسماع الأصواتِ التي أشارت لعدمية ذاك الشعار، وإلى ضرورة أن يكون بديل النظام في حال ذهابه، واضح المعالم.
(٢)
لقد أثبتت تجربة السنوات الثلاث الماضية أنه بقدرِ ما عُرف عنّا كسودانيين نجاحاتنا في إزاحة الأنظمة الشمولية في ثورات شعبية ساندتها المؤسسة العسكرية، بقدر ما عُرف عنّا الفشل في تأسيس نظام ديمقراطي مستدام عَقب تلك الثورات.
حدث ذلك في أكتوبر 1964، عند الإطاحة بحكم الرئيس إبراهيم عبود، وفي إبريل 1985، عند الإطاحة بحكم الرئيس جعفر نميري، وفي إبريل 2019 عند سقوط حكم الرئيس عمر البشير، لكن الحكم الديمقراطي التعددي في المرتين، الأولى والثانية، لم يستمر أكثر من أربع سنوات، أي لم يكمل دورة انتخابية، وها هو في المرة الثالثة ما يزال متعثراً، وهو في عام الانتقال الرابع، الأمر الذي يشير إلى كِبر حجم المعضلات التي تقف في طريقه.
(٣)
ظلت القضايا التي شكلت أبرز شواغل السودانيين عندما نالت بلادهم استقلالها تلازمهم طوال سنوات الحكم الوطني، باختلاف أنظمتها، وظل كل نظام حكم يورثها للذي يليه، بعد أن يزيدها تعقيداً؛ يصحّ هذا القول، عند الحديث عن قضية الحرب الأهلية والسلام الداخلي، وعند قضية التنمية المتوازنة بين أطراف البلاد المختلفة، وعند قضية الدستور ونظام الحكم وتأسيس النظام الديمقراطي المستدام. ويكفي القادة والنخب السياسية فشلاً أنهم بعد مضي 66 عاماً من الاستقلال لم يتفقوا على دستور دائم، يُفصّل كيف يُحكم السودان وكيف يُدار، ولا على منوال تنموي يستنهض قدرة الشعب للإنتاج والتصنيع، ويهيئ فرصاً للعيش الكريم لشعبهم، في بلد هو مضرب الأمثال في اكتناز الثروات فوق الأرض وفي باطنها، ولا على ترسيخ عُرى التواشج وقيم العيش المشترك بين شعب متعدّد الأعراق والثقافات والأديان.
لقد مرّت أكثر من ثلاثة أعوام، منذ حطّ السودانيون أحمالهم التي لازمتهم أكثر من ستة عقود في فضاء تغيير جديد، نجح في إسقاط النظام، لكنهم وجدوا أن الأحلام التي راودت جموعهم في أبريل ٢٠١٩، وظنوا أن ليس بينهم وبينها إلا تلك الخطوة، ما تزال بعيدة المنال، فلا السلام الشامل الذي ظنته الجماهير على بعد أسابيع أو أشهر قليلة تحقق، ولا العدالة التي كانوا ينتظرون البدء الفوري في ترسيخ نظامها وقيمها قد تحرّكت نحو مربع جديد، ولا حتى الحرية التي تعالت أصواتهم للمطالبة بها تمت إعادة تأسيسها على هدي الأنظمة الديمقراطية، وبدأت ممارستها على نحو مختلف؛ بل حتى مؤسسات الحكم الانتقالي التي تمّ إقرارها في الوثيقة الدستورية، لم يَر أهمها النور بعد، كما في حال المجلس التشريعي المعيّن ومؤسسات العدالة ممثلة في هياكل السلطة القضائية والنيابة العامة والمحكمة الدستورية، ولعلّ مردّ ذلك لا يعود فقط إلى اختلاف الرؤى والمناهج بين مكونات التحالف الذي كان يسيّر الوضع الانتقالي، وإنما أيضاً بسبب عدم الإدراك الكافي للقائمين عليه لتعقيدات الوضع الداخلي والعناصر المؤثرة فيه.
(٤)
أول الأخطاء التي وقعت فيها السلطة الإنتقالية بشقيها المدني والعسكري، هو عدم قدرتها على ترتيب أولويات الانتقال واحتياجات الناس على نحو سليم، ومثال ذلك استهانتهم بالوضع الاقتصادي، وما يتصل به من ضرورة تأمين الحدّ الأدنى للعيش الكريم للناس، على الرغم من الإدراك المفترض بأن ما أشعل “فتيل الثورة” هو المعاناة المتطاولة التي لازمت حياة السودانيين، بسبب من الحصار الغربي المتطاول على البلاد.
لقد ثبت أن الخطاب الثوري الذي يداعب أحلام الشباب، ويعلّق كل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السودانيون على مشجب النظام السابق، بما فيه من فساد أو سوء إدارة، وأن الحل في ذهاب النظام، لم يستطع أن يصمد طويلاً أمام الحقائق على أرض الواقع، فالأزمة أعمق من ذلك بكثير، ومن المفترض أن يكون التصدّي لها أشمل وأعمق ممّا هو حادث.
لقد توهم من تولوا قيادة البلاد بعد ذهاب حكم الإنقاذ أن الحصار الاقتصادي الأميركي مرتبط بطبيعة النظام الذي كان حاكماً، وأنه بمجرد زوال النظام ستُسقط الإدارة الأميركية تلك العقوبات تلقائياً، وأن المعونات الخارجية والاستثمارات ستتدفق على السودان، وتتحول حياة السودانيين، بين عشية وضحاها، من شظف العيش إلى رغده، من دون أن ينتبهوا إلى أن هناك الكثير جداً مما كان عليهم فعله، لترتيب الوضع الداخلي، ووقف التدهور الحادث، قبل التطلع إلى عون الآخرين أو استثماراتهم. وقد زاد من بِلة الطين الانحياز المندفع، وغير الرشيد، لأحد محاور التنافس الإقليمي في المنطقة، الأمر الذي أفقد البلاد فرصتها في استقطاب القدر الأكبر الممكن من عون الدول الشقيقة والصديقة، وجعل سياستها الخارجية عرضةً للضغوط والتأثير الذي من شأنه أن يحرفها عن بلوغ أهداف التحول نحو نظام يضمن الحرية والكرامة للسودانيين .
(٥)
الخطأ الأبرز الثاني هو تفريط مَن آلت إليهم قيادة الدولة السودانية في استغلال زخم التغيير الأول وتوظيفه لصالح إدارة حوار وطني عميق بين أكبر عدد ممكن من مكونات الشعب السوداني، السياسية والثقافية والاجتماعية، يتم الاتفاق فيه على أولويات الفترة الانتقالية وكيفية إدارتها، ومن أسفٍ أن عكس هذا تماماً هو ما حدث، حتى إن تحالفاً، مثل تحالف الجبهة الثورية، يضم في مكوناته، المجموعات الحاملة للسلاح، وجد نفسه خارج دائرة التأثير الفعلي في وقتٍ كان يتم التأكيد أنه جزء من تحالف قوى الحرية والتغيير؛ الأمر الذي جعل قضية السلام الشامل، التي هي إحدى الأولويات، تتعثر خطوات بلوغها وتتباعد المسافات نحوها، وينعكس ذلك سلباً على الأولويات الأخرى.
قد يقول قائل إن محاولات جرت لإعادة "تصحيح مسار الثورة" ولئن صح هذا نسبياً، فالثابت أن البون ما زال شاسعاً بين المنهج الجدي نحو تحول ديمقراطي حقيقي وبين ما يحدث منذ ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ومع هذا نقول إن الفرصة ما زالت ممكنة، أن ينتصح القائمون بالأمر بنصح الحادبين على استقرار البلاد والراغبين في تحول نحو دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، على الرغم من أن هذه الفرصة تضيق، و الأمل أن تُصحح النخب السياسية والقائمون على أمر البلاد، مسيرهم بإعادة ترتيب أولويات مرحلة الانتقال، وإعادة تشخيص مشكلات البلاد، لمعرفة جذورها الحقيقية، ووضع الحلول التي تناسبها، قبل أن تضيق خيارات المعالجة، فيلجأ الشعب إلى ثورة جديدة أو يلجأ الجيش إلى الخيار الصفري.
والمهم كذلك أن يتذكّر الجميع أنه ليس مطلوباً من أي وضع انتقالي أن يعالج كل المشكلات خاصة المزمنة منها، بل عليه أن يرسم طريقاً لأفضل الخيارات التي من شأنها أن تمكّن الناس من اختيار من يحكمهم بكامل إرادتهم الحرّة عن طريق إنتخابات نزيهة وعادلة وحرة، وأن تأتي السلطة المفوضة من الناس لتتصدى للقضايا التي لازمتهم منذ ما قبل الاستقلال.