
1
في العدد الأخير من مجلة أفريكا فوكاس كتب المفكر والدكتور التجاني عبد القادر مقالًا عميقًا وفارعًا كعادته دائمًا، طرح خلاله تساؤلًا: لماذا تلجأ الإمارات إلى تسليح الاستثمار في أفريقيا؟ وبحث عن الإجابة عبر دروب طويلة ومعلومات غزيرة وتحليلات عميقة لفهم الظاهرة الإماراتية الإمبريالية في أفريقيا وعلاقاتها المتشابكة مع القوى الإمبريالية الكبرى، وكيف تمكنت أبوظبي من السيطرة على تلك القوى الكبرى عبر استثماراتها و صناديقها السيادية.كما تناول المقال صناعة الأسلحة في الامارات والاستثمار الكثيف في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ومجالات استخدامه في صناعة السلاح بما يخدم استراتيجية الإمارات في تسليح الاستثمار. المقال جدير بالقراءة، تجدون رابطه أدنى هذا المقال.
2
ما دفعني للتنويه لمقال د. تجانى هو ما أقدمت عليه الإمارات خلال اليومين الماضيين، في خطوة عدّها المراقبون من قبيل تسييس التجارة والاستثمار، وهي خطوة قاتلة للإمارات في المجالين، خاصةً لدولة بنت كل سمعتها على أنها واحة التجارة الحرة والآمنة في الشرق الأوسط، بل في العالم. وهذه الخطوة شبيهة بخطوة تسليح الاستثمار في أفريقيا؛ فهي أيضًا كارثية بالنسبة للقارة وبالنسبة للعالم كله.
3
ما هي تلك الخطوات التي اتخذتها الإمارات لتسييس التجارة؟
في 7 أغسطس 2925 تم توجيه من وزارة الطاقة والبنية التحتية الإماراتية
يحظر تراخيص الإبحار إلى بورتسودان، ويمنع مناولة الشحنات المرتبطة به في كل موانئ الإمارات
11 أغسطس 2025 تُصدر شركتا الشحن البحري العالميتان CMA & CGM Customer Advisory ” مذكرة تؤكد تعليق تصاريح الإبحار للسفن الإماراتية ومنع مناولة أي شحنات تخص بورتسودان عبر موانئ الإمارات.
أواخر أغسطس (26–27): تقارير ملاحية وطاقة تشير إلى تعطّل شحنات النفط وتحويل مساراتها بعد المنع الإماراتي
في تاريخ 3 سبتمبر 2025 أعلنت ذات الشركتان عن السماح بمرور البضائع والحاويات من وإلى ميناء بورتسودان عبر ميناء جبل علي في دبي، بعد أسابيع من إدراجه ضمن قائمة الموانئ الخاضعة للقيود الإماراتية.
ثم ماذا حدث؟
عادت الشركتان في أقل من 48 ساعة لتعلنا، عبر وكلائهما في الإمارات، عن السحب الفوري لإشعارهما السابق الصادر في تاريخ 3 سبتمبر، وأكدتا: «إنه يحظر بشكل صارم مناولة أي شحنة أو حاويات، سواء للاستيراد أو التصدير أو العبور، مرتبطة بميناء بورتسودان، عبر جميع موانئ ومحطات دولة الإمارات العربية المتحدة». واعتذرتا عن أي إزعاج قد يسببه هذا القرار، مؤكدتَيْن تقديرهما لتفهّم العملاء ودعمهم المستمر.
لا أحد يعرف ماذا جرى خلال تلك الساعات إلى أن سحب القرار ولكن تناقض القرارات بتلك السرعة مثّل تطورًا مثيرًا للجدل، ويشير إلى أن هناك تضاربًا داخل الإمارات نفسها، بين حسابات الدولة السياسية ومصالح دبى الاقتصادية عبر شركة موانئها.
4
منذ تأسيسها، بنت الإمارات مشروعها الاقتصادي على تحويل الموانئ إلى أداة قوة ناعمة. ميناء جبل علي في دبي لم يكن مجرد منشأة تجارية، بل رمزًا لموقع الإمارات كـ«محطة عبور محايدة» في خضم النزاعات الإقليمية. هذا المنطق هو الذي سمح لدبي بالتفوق على موانئ تاريخية مثل عدن وبورسعيد. غير أن التطورات الأخيرة، بعد عامين من الحرب في السودان وبعد أن أوشكت على خسارتها، وبالخطوات التي اتخذتها أبوظبي أولًا بوقف الطيران السوداني من الهبوط في مطارات الإمارات، إضافةً إلى منع السفن التي تتوجه إلى السودان من الرسو في جبل علي، ومنع كل الشركات من التصدير مباشرة إلى السودان، كشفت هذه الخطوات بوضوح كيف أن الإمارات تسعى حثيثًا إلى تسييس التجارة والاستثمار والموانئ؛ إذ إنه حين تصدر الدولة قرارًا يمنع التعامل مع شحنات تخص السودان لأسباب سياسية — مرتبطة بـ الاصطفاف مع طرف في حرب أهلية — فإنها تهز الأساس الذي قامت عليه سمعة الإمارات التجارية، وتنفي عنها صفة الحيادية والانفتاح على الجميع.
5
شركة موانئ دبي العالمية
(DP World) تدير أو تملك حصصًا في أكثر من 70 ميناء حول العالم، من أمريكا اللاتينية حتى شرق أفريقيا. نجاحها قام على بناء صورة شريك تجاري محايد ومستقر، بعيدًا عن التوظيف السياسي. حين تُفرض عليها قرارات من الحكومة، كما حدث مع السودان، تصبح الشركة في وضع حرج: فهي مطالَبة بالالتزام بالقرار السياسي، لكنها تدفع ثمنه في صورتها أمام عملائها الدوليين.
6
التاريخ هنا يقدم دروسًا. في عام 2006، حين حاولت
DP World الاستحواذ على ستة موانئ في الولايات المتحدة، واجهت اعتراضًا سياسيًا واسعًا في الكونغرس الأميركي، انتهى بإفشال الصفقة. الحجة آنذاك لم تكن اقتصادية بل أمنية — الخوف من سيطرة «جهة أجنبية» على موانئ استراتيجية. واليوم، تتكرر المفارقة بشكل عكسي: قرار سياسي من أبوظبي يضعف قدرة DP World
على التوسع أو حتى الحفاظ على موقعها في شرق أفريقيا.
7
إن التناقض في القرارات الذي حدث خلال يومين — بإصدار قرار وإلغائه — يعكس خلافًا داخليًا بين دوائر صنع القرار في الإمارات؛ إذ، كما هو واضح، إن إمارة دبي عبر شركة موانئها لا ترى ما يراه الساسة في أبوظبي من استخدام الموانئ أداةً جيوسياسية للضغط، خاصة في ملفات مثل السودان وليبيا. ويدرك الجناح التجاري في الإمارات أن السمعة الحيادية للموانئ هي رأس المال الحقيقي للإمارات. هذا الخلاف ليس جديدًا؛ لطالما وُجد توتر بين رؤية أبوظبي الأمنية ورؤية دبي التجارية. لكن مع اتساع دور الإمارات العسكري في الإقليم بعد 2011، باتت كفة السياسة ترجح على حساب الاقتصاد. تجربة موانئ دبي في جيبوتي حين تعارض منطق السياسة مع منطق التجارة، كانت نتيجتها نزاعًا قانونيًا أو خسارة سمعة. وفي اليمن، تعرضت صورة الإمارات لانتقادات بأنها تستخدم «التحكم بالموانئ كسلاح سياسي».
8
القرارات الأخيرة بوقف الطيران ومرور السلع، والذي قد يتطور إلى مناحٍ أخرى، لا يضرّ السودان وحده، بل يعكس ارتباكًا في صورة الإمارات العالمية: إذ كيف يمكن لدولة ترفع شعار «مركز التجارة العالمي المفتوح» أن تمنع البضائع من المرور عبر موانئها؟ وأن تطلب في ذات الوقت ثقة شركائها التجاريين في العالم، الذين ستصلهم الرسالة واضحة: إن السياسة يمكن أن تُخلط مع التجارة في حالة أي خلاف سياسي مع أي دولة تتعارض سياستها مع الإمارات. فكيف يأمن المستثمرين والتجار على أموالهم ومصالحهم، خاصة في ظل الظروف السياسية المتقلبة في العالم كله وفي منطقتنا هذه؟ وسيظل السؤال ملحًّا: كيف يمكن لإمارة مثل دبي وموانئها — المرتهنة لقرارات سياسية قد تعصف بأي عقد تجاري — أن تقدم نفسها كواحدة للاستثمار الآمن؟! الإمارات تواجه الآن معضلة مزدوجة: إذ إنها لو استمرت في تسييس الموانئ، تخسر صورتها كمركز تجاري محايد، وإن تراجعت عن قراراتها، تظهر بمظهر الدولة المضطربة التي لا تعرف ما تريد، تمامًا كما حدث بالأمس في إصدار قرار وضده خلال ساعات.
9
التجارب العالمية تؤكد أن تسييس الموانئ ينتهي بخسارة مزدوجة. ما جرى في عدن وجيبوتي، وما يحدث اليوم في بورتسودان، يقدم تحذيرًا واضحًا للإمارات: الاستثمار قد ينهار إذا لم يُحصَّن بالحياد التجاري. أبوظبي أمام مفترق طرق: إما أن تبقى الموانئ أداة قوة اقتصادية أو ان تتحول إلى أداة ضغط سياسي قصير المدى تُفقدها ثقة شركائها وتفتح الباب أمام منافسين إقليميين لملء الفراغ القرارات الأخيرة.
الرسالة التي تصل للشركاء هي أن السياسة تتقدم على حياد سلاسل الإمداد، وهو ما يرفع علاوة المخاطر على المستثمرين والتجّار، ويفتح مساراتٍ بديلة تُضعف جاذبية ممرات الإمارات. آثار ذلك بدأت تظهر في تحويلات شحن النفط وتعطّل تفريغ ناقلاتٍ قرب الفجيرة،..
إن الجمع بين التجارة الحرة و تسييسها، تمامًا كمحاولة الجمع بين الاستثمار في أفريقيا وفرض أطماع إمبريالية على دولها عبر تسليح الميليشيات من ليبيا إلى السودان — كلاهما من المستحيلات.