آفاق وفرص التعاون السوداني السعودي في البحر الأحمر …( نحو شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد)

دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)
_____________
يمثل البحر الأحمر شريانًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في المعادلة الجيوسياسية والاقتصادية للعالم المعاصر. وعلى سواحله الشرقية والغربية، تتقابل دول تمتلك طموحات تنموية، وهواجس أمنية، وتطلعات إلى تعزيز حضورها الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، يشكّل التعاون بين السودان والسعودية أحد أبرز المرتكزات الممكنة لبناء فضاء بحري مستقر وآمن ومزدهر. فالدولتان، بوصفهما من أكبر الدول المطلة على البحر الأحمر، تتقاسمان ليس فقط الامتداد الجغرافي، بل كذلك المصير الأمني والمصلحة الاقتصادية والمسؤولية الإقليمية.
و في ظل المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها الإقليم والعالم، تتعاظم أهمية هذا التعاون الثنائي بين الدول ذات المصالح المشتركة والموقع الاستراتيجي المتقابل. ويُمثل التعاون بين السودان والمملكة العربية السعودية في البحر الأحمر أحد النماذج الواعدة لشراكة استراتيجية متعددة الأبعاد، قادرة على إعادة تشكيل التوازنات في هذا الممر الحيوي المهم و بما يخدم أمن البلدين، ورفاه شعبيهما، واستقرار الإقليم برمّته. فمن الاقتصاد إلى الأمن، ومن السياسة إلى النسيج الاجتماعي والثقافي، تتسع فرص التكامل بين الخرطوم والرياض و بين بورتسودان و جدة أكثر من أي وقت مضى، وتتلاقى الإرادة السياسية مع الجغرافيا والتاريخ والمصالح العميقة.
أهمية البحر الأحمر
يُعدّ البحر الأحمر أحد أهم الممرات البحرية الدولية، إذ يربط بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس، وتُعبره أكثر من 10% من التجارة العالمية. كما يفصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ويُعد خزانًا استراتيجيًا للثروات، من نفط وغاز ومعادن نادرة، إلى مخزون بيولوجي بحري هائل. وتكمن أهميته أيضًا في موقعه الحرج ضمن التفاعلات العسكرية والتجارية والطاقة والاتصالات العالمية، ما يجعله مجالًا تنافسيًا بين قوى إقليمية ودولية.
و تبرز اهمية البحر الأحمر لدى السودان من واقع انه يمتلك ساحلًا يناهز طوله 750 كيلومترًا على البحر الأحمر، ويضم موانئ استراتيجية مثل بورتسودان وسواكن، إضافة إلى مواقع بحرية غنية بالثروات مثل (مواقع مشروع أتلانتس 2 ديب) . ويُعد البحر الأحمر للسودان رئةً اقتصاديةً ومنفذًا استراتيجيًا وعمقًا أمنيًا حيويًا، وهو أيضًا ميدان واعد للاستثمار في النقل البحري، وصيد الأسماك، والتعدين، والطاقة، والسياحة. كما يُشكل محورًا رئيسيًا في السيادة الوطنية والسياسات الإقليمية.
اما اهميته للمملكة العربية السعودية، فهي تطل على البحر الأحمر بساحل يزيد طوله عن 1800 كيلومتر، وتضعه في قلب رؤيتها التنموية الكبرى (رؤية السعودية 2030)، من خلال مشروعات استراتيجية مثل (نيوم، أمالا، والوجه). ويُعد البحر الأحمر للمملكة ركيزةً للأمن القومي، ومنفذًا حيويًا لتصدير الطاقة، ومجالًا استثماريًا وسياحيًا بالغ الأهمية، كما يُمثّل نقطة تماس إقليمي مع إفريقيا، وجسرًا للتكامل العربي والإسلامي.كما يشكل البحر الأحمر عمقًا استراتيجيًا و مجالا حيويا مهما للمملكة من الناحية الأمنية والاقتصادية، إذ يحتضن موانئها الرئيسية، ويؤمن طرق التصدير و التجارة النفط، ويمثل واجهتها السياحية والاستثمارية المستقبلية.
النزاعات في البحر الأحمر
كلمحة تاريخية موجزة عن النزاعات ، شهد البحر الأحمر على مرّ العصور صراعات متجددة، من التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، إلى الحروب الإقليمية مثل النزاع اليمني والحرب الإريترية الإثيوبية، مرورًا بالقرصنة البحرية وتزايد النفوذ الأجنبي في موانئ المنطقة. وفي العقود الأخيرة، أصبح البحر الأحمر ساحة للتجاذبات بين الدول الكبرى التي تسعى لتثبيت قواعد عسكرية أو تأمين مصالحها الاقتصادية عبر بوابات الموانئ والجزر الاستراتيجية.
مظاهر التنافس الإقليمي والدولي في البحر الأحمر
يبرز التنافس الإقليمي من خلال سباق النفوذ بين قوى إقليمية مثل (الإمارات، قطر ، تركيا، إيران وإسرائيل)، في حين يشهد البحر الأحمر أيضًا حضورًا عسكريًا مباشرًا لقوى دولية كبرى و ذات نفوذ مثل (الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، والصين). في حين ان مصر و السعودية و السودان تجاهد كل منها فى الحفاظ على خطوط مصالحها و حماية امنها القومى و تنمية فرصها الاقتصادية و الامنية و العسكرية منفردة او في إطارٍ تحالفات في ظل تسابق و تنافس إقليمي و دولي محموم. ويتمثل هذا التنافس بشكل عام في السيطرة على الموانئ، وإنشاء القواعد العسكرية، وتأمين خطوط الملاحة، فضلًا عن استقطاب الدول الصغيرة في المنطقة ضمن محاور سياسية وعسكرية واقتصادية متشابكة.
التهديدات والتحديات للسودان في البحر الأحمر
يواجه السودان جملة من التحديات الأمنية والاقتصادية في البحر الأحمر، أبرزها،(ضعف البنية التحتية الساحلية، هشاشة القدرات البحرية، تصاعد التهريب والقرصنة والصيد غير المشروع و الجائر، تنافس القوى الإقليمية على موانئه و موقعه الاستراتيجي)، إضافة إلى التأثيرات المحتملة للحرب الداخلية التي أضعفت السيطرة المركزية على الساحل. كما يُهدد الاستثمار الأجنبي غير المنضبط سيادة السودان على ثرواته البحرية ومرافقه الاستراتيجية.
التهديدات والتحديات للمملكة في البحر الأحمر
تتمثل أبرز التحديات للمملكة في (تأمين سواحلها الغربية ضد أي اختراقات عسكرية أو إرهابية من اليمن أو من البحر ومواجهة النفوذ الإيراني في جنوب البحر الأحمر و أبرزها تهديدات الحوثيين للملاحة والأمن الساحلي، عمليات التهريب عبر البحر في الجنوب، التصدي لمحاولات بعض القوى الخارجية لبسط السيطرة على مفاصل الملاحة البحرية، وعسكرة الممرات المائية).كما أن تطلعات المملكة في تحويل البحر الأحمر إلى واجهة سياحية عالمية تضع على عاتقها مسؤوليات بيئية وأمنية واقتصادية جسيمة نحو حماية الاستثمارات السياحية والاقتصادية العملاقة.
ملامح المصالح الممكنة
تتقاطع مصالح السودان والسعودية في حزمة واسعة من المجالات الحيوية، كما تمتلك الدولتان أطيافاً متعددةً من المنافع المشتركة، تشمل تأمين الممرات الملاحية البحرية و خطوط التجارة و الطاقة، تطوير البنى التحتية الساحلية و الموانئ والخدمات اللوجستية، الاستثمار في الاقتصاد الازرق و حماية الثروات البحرية خاصة السمكية و المعدنية، تعزيز الأمن الغذائي عبر الاستثمارات الزراعية والبحرية، وتوظيف الموقع الجغرافي لتعظيم الاستفادة من المبادلات التجارية العابرة. كما يُمكن للدولتين تنسيق المواقف في المحافل الإقليمية والدولية للحفاظ على توازن المصالح في البحر الأحمر.
أشكال التعاون في البحر الأحمر بين السودان والسعودية
1) التعاون الاقتصادي والتجاري :
يتجلى هذا التعاون في (فرص تطوير الموانئ، وإنشاء مناطق للخدمات اللوجستية ومناطق حرة على الساحلين ، وتعزيز خطوط الملاحة و الربط التجاري بين الموانيء وربط شبكات النقل بين الموانئ السودانية والخليجية، كما يمكن إقامة شراكات في مجال الصيد البحري والصناعات البحرية والخدمات المينائية، دعم الاستثمارات السعودية بالسودان في مجالات النقل والتخزين والصناعات البحرية،تنشيط مشاريع التعدين المشترك مثل “أتلانتس 2 ديب”) .
2) التعاون في الاقتصاد الأزرق :
و يعد ذلك امرا ممكنا من خلال استغلال الثروة السمكية وتنظيم الصيد المشترك، التصنيع السمكي وإنشاء أساطيل صيد متكاملة، وحماية البيئة البحرية وتعزيز الاستدامة البيئية.
3) التعاون الأمني والعسكري :
يمثل أمن البحر الأحمر قضية جوهرية لكلا البلدين. وقد بدأت تجليات هذا التعاون في التمارين العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات الامنية و الاستخباراتية والتنسيق ضد التهديدات الإرهابية والقرصنة و مكافحتها. ويمكن تطوير التعاون ليشمل إنشاء آلية بحرية مشتركة للرقابة والتدخل السريع، وتوحيد الجهود في التحالفات الأمنية الإقليمية لحماية البحر الأحمر.
4) التعاون السياسي و الدبلوماسي :
يشكل البحر الأحمر محورًا في السياسات الإقليمية للدولتين، ويتيح لهما بناء تحالفات دبلوماسية تعزز الموقف العربي والإفريقي في مواجهة التدخلات الخارجية، كما يمكن توظيفه كمنصة للحوار الإقليمي الشامل من خلال (بلورة رؤية عربية إفريقية موحدة لحوكمة البحر الأحمر، توظيف التعاون في تقوية الحضور الإقليمي للبلدين، بناء محور استراتيجي يؤسس لتوازنات إقليمية مستقرة).
5)التعاون السياحي :
يمتلك الساحلان السوداني والسعودي إمكانات سياحية فريدة، خاصة في مجالات الغوص البيئي والسياحة الثقافية و الترفيه. وتفتح مشاريع (رؤية 2030) الباب أمام شراكات استثمارية في ( تطوير مناطق سياحية مشتركة، تطوير الوجهات السياحية البحرية والبيئية، والترويج المشترك للمدن والجزر الساحلية).
6) التعاون في التعدين البحري :
تشكل منطقة (أتلانتس 2 ديب) نموذجًا فريدًا للتعاون في التعدين البحري، وهو مشروع مشترك سوداني سعودي لاستغلال الثروات المعدنية في قاع البحر الأحمر. وقد يشكل هذا التعاون نواة لمشاريع أوسع في مجال الاقتصاد الأزرق.
7) التعاون في التعليم والاستثمار البشري :
ويتمثل جوهره في إطلاق برامج تبادل طلابي وتدريب مهني، دعم التعليم البحري والمهني في السودان بخبرات سعودية و سودانية، و ابتداع مشاريع توأمة بين الجامعات والمؤسسات التقنية البحرية السودانية و السعودية المتناظرة و المتشابهة.
8) البحر الأحمر في خطة المملكة 2030م :
تتضمن (رؤية السعودية 2030) تحويل البحر الأحمر إلى محور اقتصادي وسياحي عالمي. ويُعد التعاون مع السودان جزءًا ضروريًا لتحقيق هذه الرؤية، خاصة في تطوير الساحل الغربي وتعزيز التكامل مع القارة الإفريقية عبر السودان. وهذا يجعل من السودان شريكًا لا غنى عنه في إنجاح هذه الرؤية على المستوى الإقليمي.
التعاون الاجتماعي والثقافي
إن التقارب بين الشعبين السوداني والسعودي قديم وراسخ تاريخيًا، ويتجلى ذلك في (الهجرات والحج والتصاهر والتجارة عبر البحر، التشابه الثقافي والديني واللغوي مع وجود فرص واقعية لتطوير برامج إعلامية وفنية وتبادل ثقافي تعزز النسيج المشترك).
الهيئات والتجمعات والتكتلات بين السودان والسعودية في البحر الأحمر
يأتي على رأسها (مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن) ، الذي يضم السودان والسعودية، في مقدمة المنصات الرسمية للتنسيق. كما أن هناك شراكات ثنائية وأخرى متعددة الأطراف تشمل مشروعات في البنى التحتية، الاقتصاد الأزرق، الأمن البحري، وحماية البيئة البحرية، والتعدين. ويمكن توسيع هذه الأطر لتشمل منظمات إقليمية كمنظمة التعاون الإسلامي، والجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي. فضلا عن اللجان الوزارية السودانية السعودية المتخصصة، مع إمكان تأسيس منتدى دائم للتكامل البحري يضم أذرعًا اقتصادية وأمنية وتنموية.
البحر الأحمر بحيرة الأمن والسلام والتنمية
في ظل التحديات المتصاعدة، يصبح من الضروري تحويل البحر الأحمر من مسرح تنافس إلى بحيرة للتكامل والتنمية. وتمتلك الرياض والخرطوم مؤهلات قيادة مشروع إقليمي للتنمية المستدامة، ومتى ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية، يمكن للسودان والسعودية أن يتحولا إلى ركيزتين في بناء نظام إقليمي للبحر الأحمر، قائم على مبادئ الأمن الجماعي، التكامل الاقتصادي، التنمية المستدامة المتكاملة، التوازن البيئي، التعاون العربي الأفريقي والحوار الإقليمي البنّاء، وفرض اسس و مباديء احترام السيادة الوطنية. فالبحر الأحمر ليس ساحة للصراع فحسب، بل يمكن أن يكون ساحة للسلام والنماء تخدم شعوب المنطقة والعالم بأسره.
إن التعاون السوداني السعودي في البحر الأحمر ليس خيارًا تكتيكيًا أو تحالفًا ظرفيًا، بل ضرورة استراتيجية تستند إلى حقائق الجغرافيا، ومصالح الأمن، ومتطلبات الاقتصاد، ووشائج التاريخ والثقافة و مواجهة التهديدات و التحديات المشتركة. وهو تعاون تتضاعف ضرورته في ظل تسارع التحولات الإقليمية و الدولية، وتصاعد التهديدات العابرة، وازدياد أطماع القوى الكبرى، ما يفرض على البلدين تطوير آليات مستدامة للتنسيق، وتوظيف إمكاناتهما المشتركة في سبيل بناء مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا وازدهارًا للبحر الأحمر وسواحله.
فإذا التقت الإرادة السياسية مع الرؤية الاستراتيجية، فإن (الخرطوم الرياض/ بورتسودان جدة) قادرتان على صياغة نموذج شراكة يضمن الأمن والتنمية والتكامل في هذا الممر الحيوي، ويمنح البحر الأحمر اسمًا جديدًا يليق بقدسية موقعه (بحيرة السلام العربي الإفريقي). ولأجل تحقيق ذلك، تقتضي الضرورة تفعيل الآليات الثنائية الحالية، وتطوير استراتيجية مشتركة تتجاوز البعد التنسيقي إلى التكامل العملي والمؤسسي.
الجمعة 22 أغسطس 2025م