هدنة على ركام الفاشر: بين استحالة الواقع ومؤامرة إعادة التموضع!؟

تتعالى منذ يومين دعواتٌ لوقفٍ لإطلاق النار في السودان، يتصدرها بولس مسعد، وتتبناها الرباعية الدولية، وتُضاف إليها بريطانيا لتصبح «خماسية» تُعيد إنتاج النغمة القديمة ذاتها: «هدنة إنسانية» لإنقاذ المدنيين. لكنّ هذه الدعوات، في حقيقتها، ليست سوى واجهةٍ لرهانٍ خارجي فاشل على إعادة ترتيب المشهد الميداني لصالح التمرد، ومنحه فرصة جديدة لالتقاط أنفاسه بعد أن ضاق عليه الخناق في الفاشر ودارفور وكردفان، وكأن شعبنا بلا ذاكرة عن الهدن الـ ٨ التي منحت لهم وفق إعلان جدة وتبعاتها الشاخصة في الذاكرة الجمعية.
أما المليشيا وأطرافها (صمود وتأسيس ) ومَن وراءها من إعلامٍ خارجي وأذرعٍ إلكترونية، فقد تلقّفت الدعوة بنشوةٍ مكشوفة، وسارعت لترديدها في منابرها المختلفة، متناسيةً أنّ الشعب السوداني لم يعد ذلك الشعب الذي تُخدَّر وطنيته بخطاباتٍ مزيفة عن «السلام» و«الحوار»، بعد أن رأى بعينيه الخراب والدمار والإفقار والدماء التي سالت باسم هذه المصطلحات ذاتها، والمسيرات تدك ما تبقى من حطام . والعنف يمارس بحماية دولية تنصرف عن معاناتنا وازمة اهلنا في دارفور وما حولها.
شعبٌ لا ينتظر تعاطف شركاء الجريمة
اليوم، وبعد أن تكشّف الغطاء، يدرك السودانيون أن لا تعاطف يُرتجى من شركاء الجريمة، ولا عدالة يمكن أن تأتي من مجالس دولية صمتت على الفظائع، ولا دعمًا يُنتظر من من يريدون تقسيم البلاد أو ابتلاعها أو تركيع جيشها وشعبها.
لقد عرف السودانيون أصدقاءهم من أعدائهم، وعرفوا أن ما يجري ليس «نزاعًا داخليًا»، بل حرب وجود ومصير تستهدف الدولة ذاتها: جيشها، ترابها، وهويتها الجامعة، وقائد جيشها ورئيسها وكل منظومة حكمها وساستها.
فلا صوت يعلو اليوم فوق صوت المعركة، كما قال وزير الخارجية والتعاون الدولي، لأنّ الميدان وحده هو من يرسم ملامح الكرامة والسيادة . برصيد وسفر اغر لهذا الجيش في الفداء والتضحية والبسالة. ليس الرئيس البرهان ولا اركان جيشنا وقادتنا من يقبلون او يقدمون على دنيئة من وراء فاجعة ودماء وأشلاء !؟
الفاشر.. جرح مفتوح على ضمير العالم
الفاشر مدينة الصمود، ليست مدينةً عادية، إنها مرآة السودان في لحظةٍ من أكثر لحظاته قسوة.
الجرائم الوحشية التي ارتكبتها المليشيا فيها، من قتلٍ ونهبٍ واغتصابٍ وتطهيرٍ عرقي ونهب وسلب، تجاوزت حدود الوصف. عشرات الآلاف نزحوا شمالًا، والمقابر الجماعية تتحدث عما عجزت عنه بيانات الأمم المتحدة، بكل منظومتها القيمية والأخلاقية .
ورغم كل هذا، يقف المجتمع الدولي موقف المتفرج، وكأنما الضحايا أرقام بلا وجوه، وكأنّ القاتل يُمنح الحق في التفاوض والمناورة بينما يدفن الأبرياء تحت الركام، او يهيمون على وجوههم بلا وجهة او نصير ، ولكن الله ارحم منكم ووعده الحق وقد سمى ذاته العدل.
دروس التاريخ القريب: لا تفاوض تحت فوهة البندقية
نسي دعاة الهدنة أنّ للسودان تاريخًا ناطقًا بالعبرة. حين سقطت توريت في تسعينيات القرن الماضي، انسحب وفد الحكومة من المفاوضات حتى استعاد الجيش المدينة، ثم عاد إلى طاولة الحوار من موقع القوة لا الضعف.
ذلك هو المنهج الوطني الأصيل الذي يشبه شعبنا وجيشه: لا سلام يُنتزع تحت السلاح، ولا مفاوضات تُفرض حين تكون الدولة منقوصة السيادة، او بعض ابناء شعبها في محنة وابتلاء.
واليوم يعيد التاريخ نفسه في الفاشر، ولكن على نحوٍ أكثر قسوة وتعقيدًا؛ فالمليشيا لا تطالب بحقوق، بل تمارس حرب إبادة لاقتلاع وطن بأكمله من جذوره، وسلب الحكم عنوة بمشروع خارجي يرتكز الي العمالة والخيانة والمرتزقة.
الهدنة فخّ لإعادة التموضع
الهدنة التي يُروّج لها الآن ليست مبادرة إنسانية، بل فخٌّ سياسي وعسكري بامتياز، والفاشر اجبر أهلها على تركها بالجوع والموت الجبان بالمسيرات والقنص والحصار، حتى المرضى يقتلون على أسرتهم . يراد من الهدنة منح المليشيا فسحة لإعادة تموضعها، وترتيب صفوفها، ونقل قواتها نحو كردفان الكبرى لفتح جبهات جديدة لإقامة دولتهم المزعومة.
فكلما كسب التمرد موقعًا، ارتفعت أصوات المنادين بالهدنة، وكأنّ الهدف ليس وقف الحرب بل إطالتها، والبلد ظلت في ضائقة ممتدة منذ الشرارة الاولى وسقطت الخرطوم عملياً وكل المدن ، لكن ارادة الجيش والشعب انتصرت وحررت، ومن قبلهما ارداة الله ونصره.
الجيش السوداني بخبرته التاريخية يدرك أنّ أي وقفٍ لإطلاق النار في هذا التوقيت سيكون بمثابة نكسة كبرى وإنعاشٍ للتمرد، وليس إيقافًا للدماء.
فكيف يمكن أن تقبل دولةٌ بهدنةٍ يُكافَأ بها القاتل وتُعاقَب بها الضحية؟ اي منطق هذا ، واي تقدير لأصحاب الهدنة لجيش تجاوز القرن عمرا!؟
الدور الإماراتي: انكشاف الوجه القبيح
أما الدور الإماراتي فقد انكشف على الملأ.
في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، لم يعد بالإمكان ستر الموقف الحقيقي لأبوظبي التي اتخذت من موقعها السابق في المجلس منصةً لتشويه الحقائق وتبرير الجرائم، وطمس البينات عما تفعله بحق بلادنا وشعبنا لاجل مصالح تريدها دون شعب ولا دولة . محاولةً تصوير المليشيا كطرفٍ «سياسي» في حين أنها جماعة مسلحة وظيفية ارهابية استئصالية وانفصالية متورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة، وهي غارقة في الدماء والهدم والخراب والوحشية .لقد تجاوزت الإمارات مرحلة التورط غير المباشر، وأصبحت جزءًا من المعركة ضد السودان الدولة، تستخدم نفوذها المالي والسياسي والإعلامي لتقويض مؤسسات البلاد وإطالة أمد الحرب، ونهب ثرواتنا عنوة لا تابه بلحمة عروبة او آصرة دين أو إخاء مرتجى.وهو موقفٌ يضعها في مواجهةٍ أخلاقية وتاريخية مع شعبٍ صلبٍ لم ولن يركع والايام دول ، والحرب سجال والله لا يهدي كيد الخائنين وعلى الباغي تدور الدوائر.
الشعب والجيش: وحدة المصير في وجه المؤامرة
من داخل السودان وخارجه، تتصاعد حملة وطنية وإعلامية ودبلوماسية مضادة ترفع صوت الحقيقة، وتُفشل حملات التضليل، وتكشف خيوط المؤامرة الممتدة عبر العواصم.
الشعب السوداني اليوم يقف خلف جيشه، لا بوصفه مؤسسة عسكرية فحسب، بل باعتباره خط الدفاع الاول والأخير عن الدولة وكيانها.
لقد أثبتت الأيام أنّ هذا الجيش لا يقاتل لحماية سلطة، بل ليحافظ ويحفظ بقاء وطنٍ كان يمكن أن يُمحى من الخارطة لولا صموده الذي بدد كل عدة وعتاد للتمرد ، وهو قادر على ان يبدد المسيرات التي تطلق دون قوات على الارض وما لها من صمود!؟.
لا هدنة على حساب الوطن
إنّ دعوات الهدنة في ظل هذه الظروف هي استدعاءٌ ناعمٌ للاستسلام، ومحاولة لتجميل مشروعٍ بشعٍ يراد منه أن يعيد إنتاج الفوضى.
لن يقبل السودانيون هدنةً تُمنح على أشلاء أبنائهم، ولا تفاوضًا قبل أن تُستعاد الفاشر ويُحاسَب المجرمون ويُغلق باب التدخلات الأجنبية إلى الأبد، ويردع الجنائي الارهابي.
لقد انتهى زمن «الوصاية الدولية» و«الضغوط الدبلوماسية»، فالشعب الذي واجه الاستعمار وأسقط الطغاة وصنع الثورات دون غيره، لن يخضع اليوم لمليشيا عميلة أو عاصمةٍ طامعة، ستبلغ بطعمها هذا لعنات بصبر ودعوات شعبنا مصير وبال، وهو جزاء الظلم والاستكبار والصلف، والنصر صبر ساعة .
الخاتمة: معركة الكرامة لا تُدار بالبيانات
السودان يخوض اليوم معركةً من أجل الوجود، والعزة والكبرياء لامة، لا من أجل مكاسب سياسية.والتاريخ سيسجل أنّ في لحظةٍ أراد فيها العالم أن يُسكت صوت الخرطوم، ارتفع صوت شعبها وجيشها بعزة الحق وسلطان العدل يقول:
لن نركع، او نستسلم ولن نقايض السيادة بالهدنة، ولن نسمح بتمزيق الوطن باسم السلام المفخخ والثراء البوار.
فالهزيمة الحقيقية ليست في الحرب، بل في قبول هدنةٍ تُمنح على ركام الوطن ودماء أمته.
ولذلك، فإنّ الموقف الوطني الواضح هو:
لا هدنة مع القتلة، ولا تفاوض قبل التحرير واستعادة الدولة لكل شبر دنسه العدو، وبسط سيادتها على كامل التراب السوداني.
————
٣ نوفمبر ٢٠٢٥ م



