الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

نحن بشر يا معاليك


د. أمجد عمر محمد

“نحن بشر يا معاليك”…
عبارة وردت في أحد مشاهد الفيلم العربي المصري “تيمور وشفيقة”، لكنها لامست جوهر الحقيقة الغائبة في كثير من البيئات الإدارية والمهنية. عبارة تعكس واقعًا نحتاج أن نُذكّر به أنفسنا والآخرين: نحن لسنا آلات، ولسنا برامج مبرمجة على الإنتاج والانضباط فحسب. نحن بشر، نحيا بمزيج من العاطفة والعقل، من الطاقة والتعب، من الأمل والانكسار، من القوة والضعف.

إن الموظف والمسؤول على السواء، إنسان قبل أن يكون منصبًا أو وظيفة أو دورًا في منظومة. وهذا الإنسان له حقوق نفسية وعاطفية لا تقل أهمية عن حقوقه المالية أو الوظيفية. له قلب يحتاج التقدير، ونفس تحتاج الإحساس، وروح تحتاج الاحترام.

وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]
تقرير إلهي واضح لطبيعة الإنسان، فهو ليس معصومًا، ولا كاملًا، ولا خاليًا من التقصير أو الضعف. فإذا كنا نُدرك هذه الحقيقة، فلماذا نتعامل مع بعضنا وكأن الخطأ جريمة لا تُغتفر؟ أو كأن التعب خيانة للعمل؟

وفي الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“رفقًا بالقوارير”
وقد قيلت في معرض حديثه عن النساء، لكن الرفق مبدأٌ إنساني عام، يتجاوز حدود النوع والجنس، ليشمل كل من يتعامل معنا من البشر، وخاصة أولئك الذين يقع عليهم عبء العمل والواجب والمسؤولية.

ومن الضروري اليوم، بل من الواجب المؤسسي والأخلاقي، أن تُخصص في كل بيئة عمل مساحة إنسانية حقيقية تُراعي الجوانب النفسية والاجتماعية للعاملين. يجب أن تكون هذه المساحة جزءًا من الهيكل التنظيمي، تمامًا كما نُحدد ساعات الدوام والمهام الوظيفية. فالتعامل الإنساني لا ينبغي أن يكون خيارًا أو اجتهادًا فرديًا، بل التزامًا إداريًا وقيميًا، يُؤسس لثقافة مهنية راقية، تُنتج أداءً أفضل، وولاءً أعمق، وعلاقات أكثر احترامًا واستدامة.

ولا بد أن نُشير هنا إلى نقطة غاية في الأهمية: كثيرًا ما تُفرض على الموظفين أو المسؤولين توقعات مثالية تتجاوز طاقة الإنسان العادي، وكأن المطلوب منهم أن يكونوا خارقين، لا يخطئون، لا يتعبون، لا يتأثرون، لا يضعفون. وهذا التصور غير واقعي، ولا يُمثل طبيعة البشر.
فالإنسان، مهما بلغ من كفاءة أو انضباط، فهو مخلوق بقدرات نفسية وبدنية محدودة، يصل إلى مرحلة من الإرهاق أو الضغط لا يمكنه تجاوزها إلا بالدعم والتقدير والتفهم. تجاهل هذه الحقيقة لا يُنتج إلا الفتور، والإحباط، والانهيار التدريجي.

قال أحد الحكماء:
“عاملوا الناس كأنهم بشر، لا كأنهم آلات، فالآلة تُصلح إن تعطلت، لكن الإنسان قد ينكسر إلى الأبد”.

وفي تراثنا الشعبي نقول:
“الناس لبعضها”
مثل بسيط لكنه عميق، يُلخص معنى التضامن الإنساني، ويُذكرنا بأننا لا نستطيع الاستمرار وحدنا، وأننا نحتاج لبعضنا دعمًا وفهمًا ورفقًا.
فلا المدير ينجح دون موظفيه، ولا الموظف يُبدع دون بيئة تحترمه وتقدّره.

نعم، نُطالب بالأداء، بالمسؤولية، بالالتزام، ولكن كل ذلك يجب أن يتم في إطار إنساني راقٍ، لا يقوم على التوبيخ وحده، ولا على التقييم الجاف، بل على الفهم، والتقدير، والرحمة.

فنحن – موظفين كنا أو مسؤولين – نحتاج إلى بيئة تُذكرنا بأننا بشر، وأننا لسنا وحدنا في الميدان، بل هناك من يشعر بنا، ويقدرنا، ويدفعنا بلطف نحو الأفضل.

ختامًا، دعونا نُجدد عهدنا بأن نُعامل من حولنا كما نحب أن نُعامل، وأن نُدير ونُقاد برحمة وعدل وتقدير، لأننا ببساطة… بشر يا معاليك.

تعليقان

اترك رد

error: Content is protected !!