عُدت يا سادتي لها, القاهرة الأحب عندي بين مُدن كثيرة عشقتها، وبنت بيننا جسور ود، مكّنتني من أصنع فيها وسائط للإبداع والإنتاجات الفنية، ودعمتني في انتشار تجاربي المسرحية في أوساط الفنون الأدائية العربية، بعد عرضها في مدن العالم، باستضافتها على مسارحها البهية، بجمهورها العاشق والمُحب لأشكال الفنون المسرحية.
كنت قد حكيت كثيرًا عنها، وكتبت عن تفاصيل الحياة الأدبية والفنية والمشهد الثقافي المصري، كيف يفتح الأبواب للمبدعين العرب بتعدُّد وتنوُّع إبداعاتهم، للعرض والتلاقي مع الجمهور الأكثر اهتمامًا، وكيف يصبح المبدع العربي عندها القاهرة الجميلة، طرفًا أصيلاً، لا ضيفا، ولي في تجربتي التنظيمية الأكبر عربيًا وإقليمياً مثال طيب يوم جلست بعد التأسيس لأكبر منظمة عربية للفنون (الاتحاد العام للفنانين العرب) المبادرة الخلاقة للراحل الكاتب سعد الدين وهبة، كنت يومها في العقد الرابع من العمر، يزيد ولا ينقص إلا قليلاً، امنت بالمشروع منذ ان دار الحوار حوله في دمشق، ودمشق يومها مدينة الفنون تامة القبول، وترتقي فيها حوارات الثقافة لتلامس وجدان الأمة، والتعبير يومها، والحديث عنها الأمة العربية، له في المعاني الكثير.
ثم غبنا لشهر، لنعود نجلس فيها, قاهرة الظلام بنور الفكر المستنير، وتحوّلت الفكرة إلى برنامج وتنفيذ، واقتربت اكثر منها، وعملت فيها أول مرة مساعداً وقريبًا من المؤسس، اذهب معه أزور وأتعلم وأتعرف على القيادات العربية، ملوك، ورؤساء، ووزراء مسؤولين عنها الشؤون الثقافية، وقيادات سياسية، كانت تحكم أو تعارض، أو تجلس في الظل الى أن يحين أوان حكمها. ثم توليت بعدها أصيلاً الأمانة العامة أدير الشأن في كل التفاصيل فنيًا وسياسيًا وغير ذلك، وهي القاهرة الأجمل راضية عن جملة الأداءات التي قمت بها وفيها مع التعاون التام عربياً ثم أوسعت الدوائر للتشاور مع المنظمات العربية والدولية. وانتشرت الفكرة، وخرجت الإنتاجات العربية المشتركة. (وا قدساه) التجربة الإنتاجية العربية المشتركة الأولى، وحتى حروف دهاليزي هذا الأخيرة، مبادرة الاتحاد العام للفنانين العرب نعم، لكن بتنسيق تام يومها مع وزارة الثقافة في القاهرة، والصديق الفنان الملون العالمي معالي الوزير فاروق حسني. وبدعم القيادة السياسية في مختلف مستوياتها، كانت ترحب ظاهرًا وباطنًا، والجامعة العربية حاضرة، تسعد بالفكرة، وخرجت الرواية التمثيلية (وا قدساه) تأليف كاتبنا الجميل الأستاذ يسري الجندي وإخراج الراحل منصف السويسي، وقفنا للمساعدة مخرجنا الكبير الفنان عصام السيد، وكم أسعدني أن أشهد في ختام المهرجان التجريبي لحظات تكريم وقف لها الآلاف سعادةً وفرحاً، يومها بالإضافة الى أدائي لواحدة من شخوص المسرحية كنت مساعد مخرج.. وطافت المسرحية عواصم العرب رام التباعد السياسي من دمشق الى بغداد عبر عمان.
تلك بعض التصاوير خرجت من ذاكرة تعج بالأحداث، خاصة فيما يتصل بالقاهرة التي دعتني للمشاركة في فعاليات مهرجانها الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثامنة والعشرين وبقيادة جديدة والتغييرات أحيانًا كثيرة مطلوبة لاكتشاف فرص الابتكار وإحداث التنوع في تحقيق الأهداف المتفق عليها، فأصدرت معالي وزيرة الثقافة الأستاذة الدكتورة ايناس عبد الدائم قرارًا بتكليف إدارة جديدة للمهرجان، برئاسة الأستاذ الدكتور المبدع جمال ياقوت، وهو واحدٌ من مسرحيي مصر والعرب المتميزين، له تجارب ناجحة في التنظيم والإدارة للأنشطة الثقافية في مدينته الأحب الإسكندرية، معلمًا لفنون الأداء، وصاحب أفكار نيِّرة، بفضلها استطاع المهرجان في هذه الدورة أن يحقق نجاحات كبرى عندي، بتوسيع دائرة المشاركة الإقليمية والدولية، ثم باستيعاب فكر جديد في الحوارات العلمية، وارتباطها بمناهج البحث والتعليم، كما شهدنا في ظلال هذه الدورة، أعمالاً أحدث، أكدت أن البحث في مفهوم التجريب بحر نمشي فيه بإدراك واجب.
ثم حققت الدورة انتقال العروض في المسابقة الدولية لمسارح في محافظات مصر، فشهد جمهور الإسكندرية وغيرها من المدن عروضاً ما كانت ممكنة إلا بالسفر للقاهرة، ثم شكّلت الورش العلمية والفنية في فنون الأداء إضافة كُبرى، اذا نظرت الى المدربين مدارس واتجاهات مختلفةً، جاءت للقاهرة ومهرجانها الكبير، وفي كل ذلك انشغلت وسائط الإعلام بالحدث الإبداعي الكبير، فتنقّلت شخصيًا بين أكثر من فضائية عربية ودولية، إذاعات مرئية ومسموعة كانت حاضرة.
ثم التقينا الحبيب سعادة الرئيس الأمين العام للهيئة العربية للمسرح الكاتب اسماعيل عبد الله والحبيب رئيس المهرجان الدكتور جمال ياقوت، نتدارس مبادرة معالي الأستاذة الدكتورة الفنانة إيناس عبد الدائم وزيرة الثقافة، وبيننا حوارٌ مُتّصلٌ، تسعى دومًا لبناء شراكات مُستنيرة بين أوساط الثقافة العربية، في مؤسساتها الرسمية والمدنية، خاصةً المهرجانات ذات الصلة بالفنون. كانت الفكرة أن نؤسس شبكة للمهرجانات العربية للتنسيق فيما بينها، نسعى بينها لترتيبات تعزز التعاون وتراجع الجداول.
وتناقشنا وامتد حوارنا الى وقت طيب، واتفقنا أن نبشِّر بالفكرة، وأن نجلس بعدها لمزيد من التشاور، وأن ننشد فرص التعاون بين الهيئة العربية للمسرح ATI، والهيئة الدولية للمسرح ITI، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأن تكون اليونسكو في طرف الحوار امتداداً له ببُعده الدولي، وأن نمشي بالمشروع الى أن يصبح ممكنًا.
مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، في هذه الدورة حقق أرقامًا جديدة، في عدد العروض والبرامج المُصاحبة والنشر والمطبوعات, ثم كان لي في القاهرة كالعادة إشارات أخرى
لها دهاليز أوسع.. البرد والناس القيافة جعلوا كل شي ممكناً.
نعم حُظيت بالتكريم وأسعدني وتلك حكاية أخرى في أوقات، لأن فيها الكثير يعجبني أن احكي عنه بتفاصيل وتفاؤل.. نعم
ومنها القاهرة نسترد الأنفاس لنعبر.