من معامل ستانفورد إلى مدينة الفاشر .. كيف خرجت تجربة مليشيا الدعم السريع عن السيطرة

مقدمة:
حين يتحول العلم إلى مرآةٍ للشر الكامن:
في مطلع السبعينيات، أجرى عالم النفس الأمريكي فيليب زيمباردو تجربةً شهيرة داخل قبو جامعة ستانفورد، هدفها اختبار سلوك الإنسان حين يُمنح سلطة مطلقة بلا ضابط.
قسّم طلابه إلى “حراس” و”سجناء” داخل سجنٍ وهمي، ولم تمضِ سوى أيام حتى بدأ الحراس يتصرفون كجلادين حقيقيين، وانهار السجناء نفسيًا.
أوقف زيمباردو التجربة بعد ستة أيام فقط، بعدما اكتشف أن الشر ليس فطريًا بقدر ما هو موقف يُنتجه غياب الضوابط والمساءلة.
التجربةٌ وُصفت لاحقًا بأنها مثيرة للجدل أخلاقيًا، لكنها كانت – على الأقل – تجربة في معملٍ أكاديمي تحت رقابة علمية.
أما في الفاشر، فقد جرت التجربة نفسها دون علمٍ ولا رقابة؛
في معامل”أل دقلو”، حيث يتحول الإنسان إلى أداة، والسلطة إلى سلاح خارج عن السيطرة.
من الحارس الأكاديمي إلى القائد المليشياوى:
في دارفور، تكررت تجربة زيمباردو بطريقةٍ أكثر وحشية.
لم يكن هناك طلابٌ يجربون الأدوار، بل عناصر ميدانية في مليشيا الدعم السريع تُمارس السلطة على أجساد المدنيين.
أحد أبرز وجوه هذه التجربة هو من يُعرف باسم “أبو لولو”، قائد ميداني تورط في جرائم موثقة ضد إنسان الفاشر.
لم يحتاج إلى مختبر كي يختبر حدود السلطة؛ فالميدان منحه السلطة المطلقة، والسلاح منحه الطمأنينة تجاه الإفلات من العقاب.
وهكذا تحولت تجربة ستة أيام في ستانفورد إلى تجربةٍ مفتوحة في الفاشر — حيث الموقف هو السيد، والضمير هو الضحية.
مراحل شيطنة الآخر: الطريق إلى نزع الإنسانية:
من منظور علم النفس الاجتماعي، لا يولد العنف فجأة، بل يمر عبر مراحل دقيقة تُعرف بعملية “شيطنة الآخر”، يمكن تتبعها بوضوح في البناء الفكرى والسلوكى لمليشيا الدعم السريع خلال حصار الفاشر:
١. التصنيف: تقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم” — من يستحق الحياة ومن لا يستحقها.
٢. الوصم: إلصاق صفات تُسهل نزع القيمة الإنسانية عن الضحية: “عدو”، “عقبة”.
٣. نزع الإنسانية: يتحول المدني إلى رقم، والمدينة إلى هدف مشروع.
٤. التبرير الأخلاقي: تُختلق رواية لتبرير الجريمة؛ فيُسمى القتل “تأمينًا”، والنهب “استعادة”.
٥. التحلل من المسؤولية: يُنسب الفعل إلى “الأوامر” أو “الظروف”، فتتلاشى المسؤولية الفردية وتترسخ ثقافة الإفلات من العقاب.
كل مرحلةٍ من هذه المراحل تُسهم في تفريغ الفعل الإجرامي من معناه الأخلاقي، حتى يصبح القتل مجرّد إجراءٍ إداري، لا جريمة ضد الإنسانية.
الفاشر: التجربة التي خرجت عن السيطرة:
لم يكن في الفاشر متظاهرون ولا سجناء تجريبيون، بل مدينة كاملة حوصرت حتى استُنزفت إنسانيًا.
السلطة الميدانية بلا رقابة، والسلاح الوفير، والفراغ الأخلاقي الذي خلقته الحرب — كل ذلك جعل الفاشر مختبرًا ميدانيًا لانهيار الضمير الجمعي.
في معمل زيمباردو، تدخلت الأخلاق لإيقاف التجربة؛
أما في الفاشر، فغابت الضوابط لتستمر التجربة إلى أن تحوّلت إلى مجزرة.
معامل الجهل والسلاح: حين تُصنّع السلطة الانحراف:
الفرق بين مختبر ستانفورد والبناء الفكرى لمليشيا الدعم السريع أن الأول كان يسعى إلى فهم الإنسان، أما الثاني فإلى تحطيمه.
في التجربة الأكاديمية، كان الانحراف طارئًا ومؤقتًا.
أما في التجربة الميدانية للمليشيا، فقد صار سياسة ممنهجة، تبرر نفسها بلغة السلطة والمصلحة.
وهكذا، لم يعد الانحراف نتيجة الموقف فحسب، بل صار نظامًا إداريًا يحكم سلوك القوة المنفلتة من أي التزام إنساني.
الدرس الأخلاقي: حين يغيب الضابط ويتحول الموقف إلى عقيدة:
تجربة زيمباردو انتهت لأن العالم الذي صممها كان ما زال يملك ضميرًا.
أما في تجربة الفاشر، فما زال الموقف يحكم ولا أحد يوقفه.
النتيجة أن المدينة تحولت إلى مرآةٍ لجوهر العلاقة بين السلطة والانهيار الأخلاقي؛
مرآة تعكس كيف يُنتج غياب الضوابط أفرادًا وجماعات يعبدون القوة بدل القانون.
لكن تبقى الحقيقة الثابتة:
أن الأرض التي أُغرقت في الجهل والسلاح لا تسيء إلى أهل دارفور أو السودان، بل إلى من ظنوا أن بإمكانهم تحويلهما إلى مختبرٍ للدم.
ويبقى السؤال المفتوح بلا إجابة؛ ما هو تقييم “كفيل” المليشيا الأخلاقى قبل العلمى و السياسى لتجربة ستانفورد التى أجراها العالم الأمريكى فيليب زيمباردو؟



