الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

من جبل مرّة إلى جبل كلمنجارو… اليد واحدة والقفّاز يتغيّر

خيوط النفوذ الإماراتي في أفريقيا:

هناك خيوط في السياسة لا تُرى مباشرة، لكنها تصبح أوضح كلما ابتعدنا خطوة إلى الخلف. وعندما نتتبعها بعدستنا الفكرية في أفريقيا، من دارفور غرب السودان إلى سفوح جبل كلمنجارو في تنزانيا، تتشكل لوحة متكاملة عن نفوذ إماراتي يتدرج بهدوء عبر القارة، يتلون بتعدد السياقات، لكنه يحتفظ بذات الجوهر. اليد واحدة تتحرك، بل تعبث باستمرار، بينما يتغير القفّاز حسب التركيبة السياسية والطبيعة الجغرافية والإطار الزمني.ما يحدث ليس مجرد استثمار كما تروج البيانات الرسمية، ولا شراكة تنموية كما توصف أحيانًا. إنه مشروع لبناء نفوذ طويل المدى، يتحرك عبر شركات خاصة وواجهات تجارية، مستفيدًا من هشاشة بعض الأنظمة والفراغات السياسية، وفي بعض الحالات ينفذ عبر قصور المؤسسات الوطنية في حماية مواردها. ومع ذلك، تدعى الإمارات أن استثماراتها تهدف إلى دعم التنمية المحلية وخلق فرص عمل، ما يعكس الصورة الذهنية التى تأمل في تصديرها عن هذه الشراكات.

السودان .. الذهب والموانئ بوابة النفوذ:

في السودان، ظهر النفوذ الإماراتي بداية عبر الذهب، الذي لم يعد مجرد معدن، بل أصبح اقتصادًا موازيا يمكن توجيهه خارج سلطة الدولة الوطنية. شبكات من الوسطاء والشركات والمليشيات، و فى مقدمتها مليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيًا، حولت الذهب إلى أداة نفوذ، فيما بقيت بعض المؤسسات الوطنية وحدها تكافح لضبط المشهد وموازنة القوة على الأرض.
في الوقت نفسه، سعى النفوذ الإماراتي للتمدد إلى الموانئ على البحر الأحمر، التي تُعد شريانًا استراتيجيًا لربطها مباشرة بموانئ الإمارات وتأمين خطوط تجارة دولية لصالحها. هذه الموانئ ليست مجرد استثمار، بل أداة قوة جيوسياسية تسمح لها بالتموضع الاستراتيجى طويل المدى، بينما تبقى المؤسسات الوطنية هى الضمانة الأساسية لحماية سيادة الدولة.
إلى جانب الذهب والموانئ، حاول النفوذ الإماراتي بناء علاقات مع أطراف محلية وفاعلين غير حكوميين لضمان موطئ قدم دائم، مستفيدًا من الفوضى السياسية والتحديات الأمنية. في هذا السياق، يبرز دور المؤسسات الوطنية، بما فيها القوات المسلحة، في محاولة ضبط المشهد وحماية الموارد الحيوية، رغم كل التحديات الداخلية التي تواجهها.

تنزانيا .. نفس اليد بقفّاز جديد:


في تنزانيا، يتكرر نفس النمط لكن بقناع مختلف. هنا لم يكن الذهب هو الهدف، بل الأرض والطبيعة والسياحة الفاخرة. شركة OBC – Otterlo Business Corporation المرتبطة بدوائر نافذة في دبي حصلت على امتياز منذ التسعينيات في منطقة لوليوندو قرب جبل كلمنجارو. واجهتها الرسمية تدعي أنها تعمل على حماية الحياة البرية، لكن الواقع يشير إلى أنها منطقة صيد نخبوية للأثرياء، بينما السكان الأصليون، وبخاصة قبائل الماساي الذين عاشوا هناك لقرون، أصبحوا يواجهون تهجيرًا قسريًا وحرمانًا من الخدمات الأساسية، ما يهيئ المنطقة لاستثمار خارجي يحقق أرباحًا ضخمة لا تصل على الأرض إلى المجتمعات المحلية. من جانبها، تدافع الشركة عن أنشطتها باعتبارها جهودًا للحفاظ على البيئة ودعم السياحة المستدامة، ما يعكس اختلاف النظرة بين المنفعة الرسمية والمنفعة الفعلية.

خيط واحد .. أدوات متعددة:

السودان وتنزانيا مثالان على نمط متكرر: اليد واحدة تتحرك، لكن القفّاز يتغير حسب البيئة. في السودان، الذهب والموانئ هي أدوات النفوذ المستهدفة، بينما في تنزانيا الأرض والطبيعة والسياحة الفاخرة هما الغاية. وفي أماكن أخرى في القارة الأفريقية مثل الصومال والكونغو الديمقراطية و غيرهما، تظهر أدوات أخرى من موارد استراتيجية إلى نفوذ بحري، ما يشير إلى شبكة إماراتية تمتد عبر القارة، تتجنب المؤسسات الرسمية وتستغل الفجوات والفراغات السياسية.

أفريقيا اليوم .. بيئة خصبة للتمدد:

هناك عدة عوامل تجعل القارة السمراء بيئة خصبة للتحركات الخارجية. انسحاب بعض القوى التقليدية مثل فرنسا من الساحل، تراجع الاهتمام الأمريكي، التنافس الإقليمي بين السعودية ومصر وتركيا وإسرائيل، والحاجة إلى تمويل سريع بلا شروط سياسية معقدة، كلها عوامل سمحت للشركات الإماراتية بالتحرك بهدوء وفاعلية في المناطق الرمادية. تقارير مثل تلك الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (CSIS، 2024) تؤكد أن الاستثمارات الخليجية في أفريقيا غالبًا ما تمثل أكثر من مجرد نشاط اقتصادي، فهي وسيلة لبناء نفوذ طويل المدى.

المؤسسات الوطنية .. خط الدفاع الأول:

وسط هذا النفوذ، تظهر أهمية المؤسسات الوطنية في حماية السيادة وموازنة القوى الخارجية. في السودان، تساهم القوات المسلحة مع مؤسسات أخرى في حماية الموارد الحيوية، بما في ذلك الذهب والموانئ، وتعمل على منع الشركات الخارجية من تحويل هذه الموارد إلى أدوات نفوذ تتجاوز سلطات الدولة، رغم التحديات الداخلية وضغوط البيئة السياسية المعقدة. قدرة الدولة على حماية مواردها وإدارة مؤسساتها بشكل فعال تبقى العامل الحاسم في مواجهة هذه الأطماع.

الخاتمة .. اليد واحدة والقفّاز يتغيّر:

من جبل مرّة إلى كلمنجارو، يتغير القفّاز: الاستثمار في السودان، السياحة في تنزانيا، المعادن في الكونغو الديموقراطية، الموانئ في الصومال، لكن اليد واحدة. الأفكار واضحة: اليد تتحرك بهدوء عبر الحدود وتستغل هشاشة الأنظمة، بينما المؤسسات الوطنية هي الضمانة الوحيدة لحماية السيادة والسيطرة على الموارد. القارة الأفريقية يتعين ألا تُدار بمنطق الصفقات، فالسيادة الفعلية ستظل رهينة قدرة المؤسسات الوطنية على حماية الإنسان والأرض والموارد.

اترك رد

error: Content is protected !!