الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

من المسؤول؟

محمد الحاج



بالنظر إلى ما يشهده العالم من تحولات جذرية في أنظمة التجارة الدولية، تزداد الحاجة إلى تبني حلول رقمية متقدمة تضمن الشفافية، وتُعزز كفاءة سلاسل الإمداد، وتُحصّن الاقتصاد الوطني من المخاطر. في هذا السياق، أعلنت شركة ITR LOGISTICS – DMCC FREE ZONE عن نيتها تقديم خدمة جديدة تحت مسمى “التصريح المسبق للبضائع” في السودان اعتباراً من يناير 2026، مدعية أنها تمثل نموذجاً متطوراً متماشياً مع نظام ACI الدولي. غير أن هذا الإعلان، بدلاً من أن يُقابل بالترحيب، أثار موجة من التساؤلات والشكوك حول مدى مشروعية الخدمة، وجدواها، والجهات التي تقف خلف اعتمادها.

فمن خلال مراجعة فنية دقيقة، واستناداً إلى آراء خبراء مختصين في أنظمة التجارة واللوجستيات، تبيّن أن الخدمة المعلنة لا تفي بأي من المتطلبات الأساسية التي يفرضها نظام ACI المعتمد من منظمة الجمارك العالمية. فبينما يشترط النظام الدولي استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المخاطر، والتحقق من هوية الأطراف الفاعلة، وإشراك الجهات الرقابية وشركات الشحن، تفتقر الخدمة المقترحة إلى هذه العناصر الأساسية، وتُقدَّم في شكل شهادة تجارية لا تحمل أي قيمة تنظيمية أو رقابية حقيقية.

الأمر لا يقف عند حدود الانحراف الفني، بل يتعداه إلى ما هو أخطر: تضليل المستخدمين بمعلومات غير دقيقة أو قديمة، والإيحاء بشراكات دولية لم يتم التحقق من صحتها. هذا التلاعب بالمعلومات يثير تساؤلات حول نوايا الشركة، ويضع علامات استفهام حول الجهات الرسمية التي أبدت استعدادها لاعتماد هذه الخدمة دون طرح مناقصة أو إجراء مراجعة مستقلة. فهل تم اتخاذ القرار بناءً على تقييم فني محايد؟ أم أن هناك مصالح خفية تحرك المشهد من خلف الستار؟

وفي خضم هذا الجدل، يبرز تساؤل لا يقل أهمية: ما هو الدور الذي لعبته وزارة الاتصالات و التحول الرقمي بصفتها المرجعية الفنية للدولة في هذا النوع من المشاريع؟ وهل تم الرجوع إليها لأخذ الرأي الفني؟ وإن تم ذلك، فما هو تقييمها؟ وإن لم تُستشر، فهل يعني ذلك تجاوزاً متعمداً للمؤسسات المختصة؟ وعلى ذات القدر من الأهمية، تبرز وزارة التجارة كجهة اختصاص أصيلة في تنظيم السياسات التجارية والإشراف على المبادرات المرتبطة بسلاسل الإمداد والتجارة الخارجية. فهل تم إشراكها في هذا المشروع؟ وهل أبدت رأيها الفني بشأن مدى توافق الخدمة مع السياسات التجارية الوطنية؟ أم أن دورها قد تم تهميشه في سياق إجراءات غير واضحة المعالم؟

الخبراء الذين تم التواصل معهم لم يكتفوا برفض المشروع من حيث المبدأ، بل قدموا تحليلاً فنياً مفصلاً يوضح أن الخدمة لا تحقق أي من أهداف نظام ACI، بل قد تُستخدم كأداة لفرض رسوم إضافية دون مقابل تنظيمي حقيقي، مما يفتح الباب أمام ممارسات احتكارية تضر بالمنافسة وتُقوّض ثقة المستثمرين.

وعند النظر إلى تجارب دول مثل مصر وغانا وكينيا، التي نجحت في تطبيق نظام ACI عبر منصات وطنية رقمية طُورت بشراكات دولية مع جهات معترف بها، نجد أن النتائج كانت واضحة: تقليص زمن الإفراج الجمركي، خفض معدلات التهريب، زيادة الإيرادات، وتعزيز ثقة المستثمرين.

فهل سيسلك السودان طريقاً مغايراً، ويعتمد نظاماً مشبوهاً دون مساءلة أو مراجعة؟!

في ضوء هذه المعطيات، يصبح من الضروري اتخاذ خطوات عاجلة تبدأ بإيقاف العمل بالخدمة محل الجدل، وفتح تحقيق شفاف في آلية التعاقد، وإطلاق مشروع وطني حقيقي لنظام ACI بإشراف حكومي مباشر، وبمشاركة الجهات الرقابية والبرلمانية. فهل ستتحرك الدولة لحماية سيادتها الرقمية وسلامة تجارتها الخارجية؟ أم أن المصالح الضيقة ستنتصر مجدداً على المصلحة الوطنية؟

الأسئلة تتكاثر، والإجابات لا تزال غائبة. لكن ما لا يحتمل التأجيل هو أن الصمت في مثل هذه القضايا لم يعد خياراً.

محمد الحاج
خبير في أنظمة التجارة الدولية و التحول الرقمي للدول

مرجع: عن نظام ACI
https://www.wcoomd.org/-/media/wco/public/global/pdf/topics/facilitation/instruments-and-tools/tools/safe-package/advance-cargo-information-aci-implementation-guidanceen-web.pdf?la=en

اترك رد

error: Content is protected !!