
يُعد المشهد السياسي السوداني، بتقلباته وتحدياته المستمرة، مرآة تعكس واقعًا معقدًا للأحزاب السياسية فيه . ( كلها علي حدها ) بلا إستثناء .
فبعد كل الذي جري منذ إعلان استقلال السودان ( وهذا مبحث عصي علي التجاوز ويصعب اختصار وقائعه في مساحة صغيرة ) ، بات الإصلاح الحزبي ضرورة ملحة لاستعادة الثقة في العمل السياسي وتمكين الأحزاب من أداء دورها الفعال في بناء دولة ما نحلم به من ديمقراطية مستقرة. لكن السؤال الجوهري يظل: من أين يبدأ هذا الإصلاح؟ مع هذا الواقع الحزبي المتشظي الذي لا ينكره إلا مكابر.
▪️لتحديد نقطة البدء، لا بد لنا من تشخيص دقيق لحال الأحزاب السودانية. على مر التاريخ، عانت هذه الأحزاب من عدة أمراض مزمنة.
أولًا : نجد التشظي ( أمعن في استخدام المفردة ) والعدد الهائل من الكيانات السياسية، والتي غالبًا ما تكون مبنية على أسس شخصية أو قبلية أو جهوية، وليس على برامج سياسية واضحة وموحدة. هذا التشرذم يضعف أي جهد جماعي ويزيد من صعوبة التوافق على رؤى وطنية شاملة.
ثانيًا، تعاني الأحزاب من ضعف البنية المؤسسية وغياب الديمقراطية الداخلية. فكثير من القرارات تتخذ من قبل قلة من القيادات التاريخية، بينما يغيب دور القواعد والشباب والنساء في صناعة القرار. هذا النمط يعيق تجديد القيادات ويخنق الابتكار ويجعل الأحزاب مجرد أوعية لنخبة محدودة.
ثالثًا، بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف مع سمي ب ( فترات القمع والاستبداد ) التي ادت إلى إضعاف الأحزاب وقدرتها على التنظيم والتعبئة، مما جعلها في كثير من الأحيان تتسم بالسرية أو بالعمل تحت الأرض، وبالتالي فقدت قدرتها على التواصل الفعال مع الشارع وبناء قاعدة شعبية حقيقية- إلا ان الاتهام ( الدائري ) يعود الي عتاة الأحزاب في صنع هذا الفترات بالوقوف خلف كل الانقلابات المعلومة او دعم واقعها باي وجه من الوجوه ..
هذا الوضع أضعف أيضًا قدرتها على تطوير برامج سياسية واقعية تلبي تطلعات الشعب.
رابعًا، يبرز غياب التمويل الشفاف والمستدام كعقبة كبرى. فالاعتماد على مصادر غير معلومة أو التمويل الخارجي المشروط يشكل خطرًا على استقلالية الأحزاب وقدرتها على اتخاذ قرارات وطنية خالصة .
▪️إذا أردنا إصلاحًا حزبيًا حقيقيًا، يجب أن يكون متعدد الأوجه، يبدأ من داخل الأحزاب نفسها ويمتد ليشمل البيئة السياسية والقانونية المحيطة بها.
أولًا: الإصلاح من الداخل – تعزيز الديمقراطية والشفافية
النقطة الأولى والأكثر أهمية هي الإصلاح الذاتي للأحزاب. يجب على الأحزاب أن تتبنى ممارسات ديمقراطية داخلية حقيقية. وهذا يعني:
- تجديد القيادات: فتح الباب أمام الشباب والكفاءات الجديدة لتولي المناصب القيادية، وعدم احتكار المناصب لفترة طويلة.
- انتخابات داخلية حرة ونزيهة: ضمان شفافية ونزاهة الانتخابات الداخلية للهيئات القيادية ومراجعة اللوائح المنظمة لذلك.
- تفعيل دور القواعد: إشراك الأعضاء في صناعة القرار، من خلال ورش العمل والمؤتمرات الحزبية والمنتديات النقاشية.
- الشفافية المالية: وضع آليات واضحة لجمع الأموال وإنفاقها ونشر التقارير المالية بشكل دوري، لضمان النزاهة ومنع الفساد.
- تطوير البرامج السياسية: الانتقال من الشعارات العامة إلى برامج تفصيلية وواقعية تلبي احتياجات المواطنين في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
- تعزيز دور المرأة والشباب: دمجهم بشكل فعال في هياكل الحزب وفي صنع القرار، وتوفير التدريب اللازم لهم.
ثانيًا: الإصلاح من الخارج – الإطار القانوني والبيئة السياسية
لا يمكن أن يتم الإصلاح الحزبي بمعزل عن الإطار القانوني والبيئة السياسية العامة. وهنا تبرز الحاجة إلى:
- قانون أحزاب عادل ومنصف: يجب أن يضمن القانون حرية تكوين الأحزاب والتعبير، مع وضع معايير واضحة للتسجيل والتمويل والعمل، تمنع التشرذم المبالغ فيه وتشجع على الاندماج وتوحيد الصفوف.
- الدعم المؤسسي والتدريب: توفير برامج تدريبية للأحزاب حول الحوكمة الرشيدة، والتخطيط الاستراتيجي، والتواصل الفعال، وبناء القدرات المؤسسية.
- تمويل حزبي شفاف ومنظم: وضع آليات لتمويل الأحزاب من الدولة بشكل عادل وشفاف، مع الرقابة الصارمة على هذا التمويل لضمان عدم استخدامه لأغراض غير مشروعة.
- بيئة سياسية مستقرة ومحفزة: توفير مناخ سياسي يسمح للأحزاب بالعمل بحرية دون قمع أو تضييق، وتشجيع الحوار السياسي البناء والتعددية.
- تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام: يمكن للمجتمع المدني والإعلام المستقل أن يلعبا دورًا رقابيًا مهمًا على أداء الأحزاب، وتشجيعها على الإصلاح والتطوير.
▪️إن الإصلاح الحزبي في السودان ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية لاستعادة المسار الأمثل لتداول السلطة وبناء دولة قوية ومستقرة. يبدأ هذا الإصلاح من إرادة حقيقية داخل الأحزاب نفسها لتغيير ممارساتها والتحول نحو الديمقراطية والشفافية. بالتوازي مع ذلك، يجب أن تعمل الدولة والمجتمع على توفير البيئة القانونية والسياسية التي تدعم هذا التحول. وحدهما معًا، يمكن تحقيق التقدم المأمول، وتمكين الأحزاب من أداء دورها كأحد الركائز الأساسية للدرلة السودانية .
والي الملتقي ،،،