
رسم المرحوم حسن دفع الله في كتابه الذي صدر بالانجليزية بعنوان: (هجرة النوبيين) ،The Nubian Exodus
صورة قلمية باهرة لرحلة قطار تهجير اهالي حلفا إلي خشم القربة (حلفا الجديدة) وذلك في الفصل العشرين من الكتاب.
ظل الكتاب منذ طبعته الأولي والاخيرة في عام 1975 بعيدا عن متناول قراء العربية حتي وفقني الله لترجمته منذ خمسة وعشرين عاما مع بداية الألفية الراهنة.
سرد المؤلف مسار الرحلة من نقطة البداية في اقصي شمال السودان الي نهايتها في اقصي شرقه ووصف الاستقبالات الاسطورية لقطار الترحيل في محطات السكة جديد من ابو حمد إلي ان وصل للوطن الجديد ، وصوًر بعاطفة مشبوبة تفاعل ابناء السودان من مختلف القبائل والاعراق مع اهلهم ابناء حلفا وتخفيف اوجاع فراقهم لوطنهم الأم الذي ابتلعته مياه السد العالي.. الي الابد.
بعد ان عبر القطارصحراء النوبة ( حيث المحطات المسماة بالارقام من 1 إلي 10 ) ووصل إلي ابوحمد ، كتب المؤلف يقول :
( خرجت قبيلة الرباطاب عن بكرة ابيها لاستقبال القطار بمحطة ابو حمد حيث كان الترحيب حارا ومضيافا. وجاء عباس التجاني الضابط الإداري لمدينة بربر إلي المحطة ليرحب بالقادمين الذين قٌدمت لهم جميعا اقداح الشاي من اوان معدنية ضخمة.)
وحين وصل القطار إلي مدينة عطبرة كتب يقول :
( كان هناك حشد من الناس – جاء بعضهم من الدامر- ليكونوا في استقبال القطار. وتداعي نوبيو عطبرة تلقائيا إلي المحطة للترحيب بابناء عمومتهم المتوجهين إلي وطنهم الجديد . واقيم احتفال كبير بالمحطة حضره الاميرالاي( العميد) محمد المهدي حامد( قائد سلاح المدفعية) والسيد حسن قرين والسيد محمد الفضل المدير العام لسكك حديد السودان. وانبري الخطباء يعبرون عن اهتمام كافة المواطنين بمصير اهالي حلفا ويتمنون لهم السعادة في مقرهم الجديد . وقبل ان يتحرك القطار انهمرت الهدايا – من جولات السكر ودقيق القمح والارز وصفائح الجبن والزبدة والزيت والحلوي للاطفال – التي جاد بها مواطنو المدينة وممثلو السلطات المحلية .)
ثم وصف المؤلف الاستقبالات الحميمة لقطار التهجير في محطات ( مسمار ) و(هيا) و (اروما) فقال :
( وفي محطة مسمار جاء الهدندوة يستقبلون القطار بأواني الشاي المترعة يطوفون بها علي عربات القطار التي استقلها ابناء وطنهم المهجرين ، بالبشر والمودة والترحاب. وبالرغم من ان القطار قد وصل إلي محطة “هيا “في ساعة متأخرة من الليل وفي برد قارس ، إلا ان ذلك لم يحل دون اعداد مهولة من الناس ليكونوا في انتظاره . وكان علي رأس المستقبلين الشيخ ( بيرق) احد زعماء الهدندوة الذي جاء من مقره البعيد في صحبة رؤوس من قومه وهم يحملون جوالات الدقيق والسكر وصفائح الزبد والعسل . وألقي الشيخ بيرق كلمة مطولة ومؤثرة بلغة البجا – رغم معرفته الجيدة للعربية – اكد فيها للنوبيين ان للهدندوة لهجتهم المستقلة مثلهم ، وأمن علي ادراك البجا العميق لحجم التضحية التي بذلوها من اجل الوطن الكبير وطمأنهم علي احترام قومه لهم وحرصهم علي العيش معهم جنبا إلي جنب بمودة وسلام. ثم قدم هديته التي قال إنها زهيدة ، إلا انه يرجو قبولها باعتبارها عربونا للصداقة والمحبة . وقد تاثر الجميع بالشعور النبيل الذي ابداه زعيم الهدندوة ، فقابله النوبيون بالاعزاز والتقدير. وفي محطة اروما توافد الهدندوة من تمنتاي وهداليا ومتاتيب وجرجر وتوقان وهمشكوريب لاستقبال جيرانهم الجدد . وكان مثيرا ان تراهم بشعورهم الملبدة التي تنضح بالدهن وسيوفهم وخناجرهم وعصيهم المتهدلة من اكتافهم. وجاء الناظر محمد الأمين ترك علي رأس زعماء قبيلته لاستقبال القطار . وتجمع كافة اهالي اروما من التجار والعمال والمزارعين والموظفين وتلاميذ وتلميذات المدارس في الفناء المقابل لرصيف المحطة انتظارا لوصول القطار . وعندما دخل القطار المحطة ، اطلقت صافرة مصنع الكرتون صفيرا عاليا تحية للركاب . ثم ماجت المحطة كلها بصخب عنيف.. النساء يوقعن علي ( الدلوكة) ، والهدندوة يضربون نحاس ناظرهم ويهتفون مرحبين بالبجاوية ( دبايوا.. دبايوا ).
وقبل ان يغادر القطار المحطة إلي المحطات التالية كانت حافلاته قد امتلأت بهدايا هائلة من المستقبلين. ( نواصل).