
في وطنٍ أثقلته الخيبات وأشعلته الحروب، ما تزال معركة السلطة هي الهمّ الأكبر للنخب السياسية والحركات المسلحة، لا معركة بناء الدولة، ولا معركة الكرامة الوطنية، ولا معركة حياة المواطن البسيط، و ما تزال الكراسي و المناصب تُخاض لأجلها الحروب، وتُشعل بسببها النزاعات، ويُستدعى بها الخارج، ويُستنزف فيها الوطن.
لعل أصل العلة في السودان هو أن السلطة لم تُفهم يومًا و لم يتم التعامل معها كوسيلة لبناء مؤسسات الدولة وخدمة الشعب، بل كغنيمة يقاتل من أجلها الجميع حيث تكون السلطة أولاً ثم يحضر ما عداها لاحقاً.
ومنذ الاستقلال وحتى اليوم، تنوّعت ذرائع السعي إلى الكرسي و تعددت في شكل صراع المركز والهامش، اقتسام السلطة والثروة، الإقصاء العرقي والاثني، و قضايا العدالة والحرية والسلام. و غيرها . لكن كل ذلك في الغالب، كان عبارة عن مطايا تُركب في سبيل الوصول إلى كراسي السلطة ، لا أدوات لتحقيق مشروع وطني شامل.
لم يكن المواطن السوداني في يومٍ ما هو من قرّر القتال، ولا هو من فاوض، ولا هو من وقّع الاتفاقات، ومع ذلك يُدفع إلى ساحات الموت قتالاً باسمه و ارتكازاً على قضاياه، ثم يترك في الهامش بعد تحقيق المصالح الخاصة للمتفاوضين. إن القوى السياسية والحركات المسلحة ظلت تسرق صوته، وتحتكر التعبير عن قضاياه، ثم تتخلّى عنه حين يصل الزعماء الى الكراسي و يجلسوا عليها.
إن اتفاق جوبا للسلام، رغم أنه مثّل فرصة تاريخية، إلا أنه سُرعان ما تحوّل إلى منصة لتقاسم السلطة بين الموقّعين، بدلاً من أن يكون وثيقة و وسيلة لتأسيس سودان جديد ينعم بالسلام و التنمية و الاستقرار.
كذلك فإن قائد المليشيا المتمردة، و من موقعه كنائب لرئيس المجلس السيادي، ومن خلال ما يمتلكه من قوة وسلاح ومال، حاول استغلال الاتفاق لبناء نفوذ سياسي يُدير به الحركات المسلحة ويضمها تحت جناحه ، ويُوسع به سلطانه الشخصي. ولم تكن بقية الحركات الموقعة بأفضل حالًا؛ فقد دخلت الاتفاق بوعي الغنيمة و قصدها، لا بعقلية الدولة و هذا ما تؤكده مؤشرات الحاضر، لقد اعادت اتفاقية جوبا اللعبة القديمة.
و لم يبدأ رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس مهامه، حتى سرعان ما دخل مباشرة إلى “معركة الكراسي” و التي عطلت عليه سرعة تكوين حكومته و شوشت على منطلقاته التى كان يبنى عليها رؤيته و فكرته في هذه المرحلة ، إن ما رشح من صراع إعلامي وسياسي، وشدّ وجذب، بينه وبين الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، بسبب تمسكهم بحصصهم، يؤكد أن الحرب لم تغيّر فينا شيئًا وأننا لم نتعلّم بعد رغم كثرة الدروس و عظم النتائج و ارتفاع تكلفتها. فلا يزال الكرسي هدفًا لا وسيلة، ولا تزال المكاسب الشخصية تُقدّم على المصلحة الوطنية، ولا يزال الوعي الوطني قاصرًا عن إدراك اللحظة المفصلية التي نعيشها.
لقد أثبتت الممارسة العملية وبما لا يدع مجالًا للشك، أن المنصب في السودان من منظور طالبيه، إنما هو طريق إلى الثراء و الكسب الشخصي، لا وسيلة لإحداث التنمية أو تحسين حياة الناس.
و لم تُنتج أي حرب في السودان أو صراع أو اتفاقية منطقةً أكثر نماءً، أو مواطنًا أكثر أمنًا، بل كانت النتائج دومًا مزيدًا من التهميش و مزيدًا من الدمار و التردي و مزيدًا من التشرذم و التدخل الدولي ومزيدًا من التراجع و التخلف.
لقد فرضت الحرب الأخيرة واقعًا قاسيًا ومُرًا ، لكنه غني بالدروس لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، واقع محتشد بالعبر التي يجب ان نعيها، منها أن الوطن أولًا، ولا صوت يعلو فوق صوت بقاء الدولة، و أن الكل مهمش؛ من دارفور إلى بورتسودان، ومن كادقلي إلى دنقلا و في كل مكان و اتجاه شرقاً و شمالاً و غرباً و جنوباً، و أن السلطة العامة والمال العام ملكٌ للشعب لا للكيانات.
فكفى صراعًا على الكراسي، لقد دفع المواطن السوداني كل الفواتير؛ من دمه، ولقمة عيشه، وتعليم أطفاله، وسلامة مجتمعه و خصم من مستقبل اجياله الكثير، ولا مجال بعد اليوم للمزيد من الانتظار، ولا لمزيد من المتاجرة السياسية او العسكرية باسم القضايا العادلة. لقد آن الأوان أن نرفع شعار “إن الوطن أولًا، وأن الكرسي للقوي الامين خدمةً لا غنيمةً و أن المنصب لا يساوي شيئًا إن لم يخدم المواطن” و لا يطيب كل ذلك و لا يحل الا بالكفاءة و التأهيل المطلوبين و عبر الطرق المشروعة.
إن السودان لن يُنقذه اتفاق جديد، ولا رئيس وزراء جديد، ولا تحالفات دولية أو إقليمية. بل ان ما يُنقذ السودان هو الوعي، والوضوح، وتقديم المصلحة الوطنية على أي اجندة حزبية كانت أو عرقية أو طائفية أو مناطقية أو حتى غنائمية.فلنُسدل الستار على مسرح (معركة الكراسي) ، ولنبدأ (معركة الدولة الحرة و الراشدة) .
الأربعاء 2 يوليو 2025م