الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

مبادرة السودان أمام مجلس الأمن: رؤية وطنية للحل واختبار للشراكة الأممية!؟

السفير د. معاوية التوم


جاء خطاب الدكتور كامل إدريس أمام مجلس الأمن مساء الاثنين ٢٢ ديسمبر الجاري،  في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، حيث تتقاطع الحرب مع الانهيار الإنساني وتداعياته، وتتزايد المخاطر على وحدة الدولة وأمن الإقليم. لم يكن الخطاب مجرد عرض لمعاناة إنسانية وتداعياتها المسمرة منذ أبريل ٢٠٢٣، بل طرحًا سياسيًا متكاملًا لرؤية سودانية للحل، أخذت بكل شواهدها وآثارها المدمرة، تقوم المبادرة على إنهاء الحرب، واستعادة الدولة، وبناء سلام مستدام يقوم على الحوار والعدالة واحترام السيادة الوطنية، والنهوض والإعمار واعادة التاهيل. وتركز بصورة أساسية الي خارطة الطريق التي قدمها الفريق البرهان لأمين عام الامم المتحدة في الربع الاول من هذا العام.  عناصر هذه المبادرة كالاتي:-
أولًا: الملكية الوطنية أساس أي حل
أكد د. كامل إدريس أن أزمة السودان لا يمكن حلها إلا عبر إرادة وطنية خالصة، محذرًا من أن الحلول المفروضة من الخارج أو المتجاوزة للفاعلين الوطنيين لن تؤدي إلا إلى تعقيد الصراع ووفق التجارب الماثلة. في اشارة الي ما تقوم به الإمارات وما تسعي لتحقيقه عبر (الرباعية ) التي أسقطها السودان في رؤيته للمعالجة لعدم حيدتها والوصاية التي ظلت تعبر بها، واستبدلها بالمبادرة الاميركية السعودية المصرية، التي تتشكل وشبكة امان ربما تضم قطر وتركيا.
ودعا المجتمع الدولي إلى احترام سيادة السودان، والانتقال من منطق الوصاية إلى منطق الشراكة الداعمة، حيث يكون الدور الأممي والإقليمي مساندًا للقرار الوطني لا بديلًا عنه. دون فرض اي ارادة خارجية او وصفات جاهزة. ويتطلع السودان أن تعزز بسند إقليمي من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية كشبكة امان لازمة للتنفيذ المنضبط.
ثانيًا: لا حلا عسكريًا… والحوار السياسي هو السبيل
على نحو ما دعا اعضاء المجلس في إحاطاتهم، أوضح الخطاب أن تجربة الحرب أكدت استحالة الحسم العسكري، وأن الحوار السياسي الشامل يظل الطريق الوحيد لإنهاء الصراع ومنع تفكك الدولة. لكن وفقا للرؤية السودانية وملكية الحل.
هذا الحوار، وفق المطروح، لا يهدف إلى تقاسم مؤقت للسلطة، بل إلى معالجة جذور الأزمة وبناء توافق وطني يفضي إلى استقرار دائم.
يرتكز الي خارطة الطريق التي قدمها رئيس مجلس السيادة للامم المتحدة في فبراير ٢٠٢٥م. ستوضع له المواقيت الزمنية واليات التنفيذ لاحقا،وكل المقاربات التي سيفرزها التفاعل حول الخطة التي أعلنت بما يفضي الي غاية السلام والاستقرار بالبلاد.
ثالثًا: تسلسل الأولويات وحلقات الترابط
تقوم المبادرة على منهجية متسلسلة ومنطقية، تبدأ بـ وقف شامل لإطلاق النار  برقابة اممية مشتركة، وانسحاب التمرد من كافة المواقع التي يتواجد بها، كشرط أساسي لأي تقدم لاحق، إذ يمثل هذا الإجراء القاعدة الأمنية الضرورية لحماية المدنيين وتهيئة البيئة للحوار.
بعد تثبيت وقف النار، تأتي المساعدات الإنسانية لضمان تلبية الاحتياجات العاجلة للمتضررين من الحرب وفتح الممرات الإنسانية دون قيود او تسييس أو استغلال .
ثم تنتقل المبادرة إلى الترتيبات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تشمل:
• إعمال المحددات الأمنية مثل تجميع قوات الدعم السريع وفق اتفاق جدة ونزع السلاح والدمج والتسريح تحت رقابة دولية وإقليمية
• الحوار السياسي الشامل لتسوية النزاع واستكمال استعادة شرعية الدولة
• الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية لإعادة الاستقرار وإطلاق التنمية والإعمار.
وتؤكد المبادرة على أن هذه الخطوات ليست منفصلة، بل حلقات متصلة ومتداخلة، حيث يعتمد نجاح كل حلقة على تنفيذ الحلقة السابقة. فوقف النار يمهد الطريق لتقديم المساعدات الإنسانية، والتي بدورها تهيئ المناخ للترتيبات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يضمن سلامًا مستدامًا وأساسًا متينًا لبناء الدولة ويؤمن الانتقال المدني الديمقراطي.
رابعًا: البعد الإنساني وتقاسم المسؤولية الدولية
سلّط الخطاب الضوء على الكارثة الإنسانية غير المسبوقة، داعيًا إلى فتح الممرات الإنسانية وضمان وصول المساعدات لكل المتضررين دون تمييز أو تسييس، وقد جاء هذا متسقا مع المزاج الدولي.وأكد في كلمته أن السودان لا يطلب شفقة أو تعاطفًا عابرًا، بل تقاسمًا حقيقيًا للمسؤولية، باعتبار أن استمرار الأزمة يهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.
خامسًا: وقف تدفق السلاح إلى المليشيات
من النقاط الجوهرية في خطاب إدريس وجري التاكيد عليها من اعضاء المجلس ، على أن استمرار تدفق السلاح إلى المليشيات هو أحد أهم أسباب إطالة أمد الحرب وتعقيد المشهد  الداخلي .ودعا المجتمع الدولي إلى تفعيل قرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر السلاح القرار ١٥٩١، ومحاسبة الجهات التي تنتهكها، مشددًا على أن السلام لا يمكن أن يتحقق بينما يستمر تغذية الصراع خارجيًا.
سادسًا: لا سلام دون عدالة
أكدت المبادرة أن العدالة ركيزة أساسية لأي سلام مستدام، وأن تجاهل الانتهاكات الجسيمة المرتكبة بحق المدنيين سيؤدي إلى سلام هش قابل للانهيار.وشدد الخطاب على ضرورة ضمان عدم الإفلات من العقاب، وهذا ما اتسق مع ما تضمنته خطابات الدول الاعضاء، باعتباره شرطًا أخلاقيًا وقانونيًا لمنع تكرار الجرائم على نحو ما حدث بالفاشر ونيالا وغيرها بما يحقق بناء الثقة في مستقبل الدولة.
سابعاً: رفض مليشيا الدعم السريع للمبادرة 
رفضُ الدعم السريع المتسرع لمبادرة رئيس وزراء السودان لا ينبع من اعتراضٍ إجرائي، بل من تناقضٍ بنيوي بين جوهر المبادرة ومشروع المليشيا. فالمبادرة تؤسس لاستعادة الدولة واحتكارها الشرعي للقوة، وتربط الحل السياسي بالمساءلة والعدالة الانتقالية، وهو ما يضع الدعم السريع مباشرة في خانة القوة الخارجة عن القانون ويهدد وجوده كمنظومة عسكرية–اقتصادية موازية.
هذا الرفض يفاقم من تبعاته القانونية والسياسية، إذ يتقاطع مع سجلٍ متصاعد من الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين، شملت القتل الواسع، التهجير القسري، العنف الجنسي والجنساني، وتدمير البنى المدنية ونهب ممتلكات المواطنين ، وهي أفعال باتت موضع توصيف دولي متزايد كـ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كما أن رفض أي مسار سياسي مشروط بالعدالة يعزز السردية الدولية بأن المليشيا لا تبحث عن تسوية، بل عن شرعنة العنف وفرض الأمر الواقع بالقوة.
وفي المحصلة، يسرّع هذا الموقف من انتقال التمرد من خانة “طرف في نزاع” إلى خانة الفاعل المعزول دوليًا، ويفتح الطريق أمام تشديد العقوبات، وتوسيع الولاية القضائية الوطنية و الدولية، بل وطرح جدي لتصنيفه ضمن المنظومات الإرهابية، بما يحمله ذلك من تداعيات قاصمة على شبكاته المالية، وحاضنته الإقليمية، ومستقبله السياسي.
ثامناً: رسالة السودان إلى مجلس الأمن
في مجمل خطابه، بعث د. كامل إدريس برسالة واضحة إلى مجلس الأمن مفادها أن السودان:
• لا يطلب تعاطفًا لفظيًا
• ولا بيانات إدانة شكلية
• بل يسعى إلى شراكة إقليمية وأممية حقيقية تحترم سيادته، وتدعمه في إنهاء الحرب وبناء السلام، لتقوم الدولة بمعالجة كل ما يتصل بمطلوبات الاستقرار وعودة النازحين واللاجئين الي مرحلة الإعمار واعادة التاهيل والتعافي الوطني 
إنها رؤية تقوم على معادلة متكاملة:
حل وطني بالحوار، وقف إطلاق نار قائم على ترتيبات أمنية واضحة، دعم إنساني عاجل، منع تسليح المليشيات، وعدالة تضمن عدم الإفلات من العقاب.وهي معادلة، إذا توفرت لها الإرادة الدولية الصادقة، يمكن أن تشكل مدخلًا حقيقيًا لإنقاذ السودان واستعادة دولته. مع توفر الإرادة الوطنية والالتزام الدولي، فإن المبادرة تمتلك أساسًا قويًا للنجاح، رغم التحديات الميدانية والسياسية. هنالك عدة انتقادات وجّهت لطرح  الدولة الذي يربط نجاح وقف إطلاق النار بردود فعل دولية وإقليمية، باعتبار أن الاعتماد على الضغوط الخارجية قد لا يضمن تنفيذ الالتزامات ميدانيًا، خصوصًا في ظل انقسامات داخل مجلس الأمن نفسه وعدم قدرة المجتمع الدولي حتى الآن على فرض إجراءات قسرية. والرفض الذي أعلنته مليشيا الدعم السريع للخطة المقدمة . 
تاسعاً: اختبار الشراكة الامنية 
تختبر مبادرة رئيس وزراء السودان الشراكة الأممية من زاوية حاسمة: هل تقف الأمم المتحدة مع منطق الدولة أم مع إدارة النزاع او الأزمة؟ فالمبادرة تضع المنظمة الدولية أمام استحقاق الانتقال من دور الوسيط الحذر الذي يوازن بين الأطراف، إلى شريكٍ واضح في استعادة الشرعية الدستورية، واحتكار الدولة للعنف، وربط أي تسوية بالمساءلة وعدم الإفلات من العقاب.
هذا الاختبار يكشف حدود الحياد الأممي التقليدي؛ إذ إن تبني المبادرة يعني الاصطفاف مع مسار يعيد تعريف الدعم السريع كقوة خارجة عن إطار الدولة، بينما التردد أو تدوير الزوايا يُفهم كاستمرار في مقاربة “الاستقرار دون عدالة”، التي أطالت أمد الصراع. وعليه، فإن المبادرة لا تختبر فقط فاعلية الشراكة الأممية، بل مصداقيتها الأخلاقية والسياسية في السودان: إما شراكة لبناء الدولة، أو شراكة لإدارة الأزمة بلا أفق للحل المستدام.
⸻——
٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!