الرواية الأولى

نروي لتعرف

فيما أرى / عادل الباز

مابعد لقاء ترمب بن سلمانمطلوبات سيناريوهات..ومأزق ابو ظبى

عادل الباز

١
تحتاج التطورات السياسية التي شهدتها القضية السودانية بالأمس، بعد لقاء الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والرئيس الأمريكي ترامب والتصريحات التي أعقبت اللقاء، النظر في مطلوبات تحويل تلك التصريحات إلى واقع حتى لا تصبح معلّقة في هواء الأسافير، وتحتاج أيضًا للتمعّن في رؤية السيناريوهات المحتملة وقراءة دقيقة للتحديات الماثلة والمرتقبة.
بالطبع التطور الأبرز هو دخول ترامب شخصيًا على خط الأزمة السودانية، التي قال إنها لم تكن من أولوياته وأنه انخرط فيها استجابة لدعوة ضيفه الزائر الأمير محمد بن سلمان. يعني ذلك أن الرئيس ترامب أعاد الملف السوداني للمؤسسات الأمريكية، سواء في البيت الأبيض أو في وزارة الخارجية الأمريكية، وهذا ما لمح إليه وزير الخارجية الأمريكي روبيو في تصريحاته الأخيرة ، بعد خبث بولس ورهطة.
٢
قبل النظر في السيناريوهات المحتملة، لننظر في ما هو مطلوب من الرئيس ترامب لينجح تدخله في الملف السوداني ويحصد النتائج التي يمكن أن تؤدي لإيقاف الحرب.
المطلب الأول الآن هو أن تدفع إدارة ترامب في اتجاه تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية، وهو إجراء بدأت خطواته في أروقة الكونغرس بمطالبة ثلاثة نواب، وكما أكد مستشار رئيس مجلس الوزراء الأستاذ محمد محمد خير ان ذلك سيتم في اواخر ديسمبر.
إذا اتُّخذت هذه الخطوة فمن شأنها أن تشل يد أبوظبي تمامًا، وقد يؤدي ذلك لإيقافها عن تقديم أي دعم عسكري للمليشيا لان وقتها ستكون الاماراتتدعم منظمة ارهابية. وطبعا لا يمكنها أن تكذب على أمريكا كما تفعل الآن أو تنكر دعمها للمجرمين من آل دقلو، وذلك لأن أمريكا تعرف التفاصيل وتراقب كل شيء يجري في السودان.
ولحسن الحظ لن تتعب أمريكا أو الرئيس ترامب كثيرًا، إذ إن هناك قرارًا صادرًا من مجلس الأمن يحظر توريد السلاح لدارفور. وكل ما يلزم هو تفعيل هذا القرار (1556)وفرض رقابة على توريد الأسلحة)، كما فعلت إسبانيا قبل يومين بإيقاف عشر سفن محمّلة بالسلاح متجهة إلى ليبيا ومنها إلى السودان.إضافة إلى ذلك، هناك ثلاث خطوات ضرورية لإنهاء مؤامرة توريد السلاح والمرتزقة للمليشيا.
٣
المطلب الثاني هو الضغط على دول الجوار التي تقيم على أراضيها معسكرات للتدريب للمرتزقة ولتوريد الأسلحة وتشوين المليشيا بكل احتياجاتها. وهذه دول ومناطق معلومة لدى الكافة، ابتداءً من قاعدة أم جرس إلى قاعدة الكفرة وحتى بوصاصو في الصومال، إضافة إلى مراكز تشوين في إثيوبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى. فهذه الدول، بعد قرار تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية وتفعيل قرار مجلس الأمن الخاص بالأسلحة، ستجد نفسها في مواجهة المجتمع الدولي، وهذه المرة بقيادة ترامب شخصيًا، وستُدمغ بأنها تحتضن وترعى منظمة إرهابية متهمة بالإبادة الجماعية. وفي هذه اللحظة لن تستطيع أبوظبي حمايتها أو توفير غطاء دولي لها ينجيها من غضب دولي متصاعد.
٤
المطلب الثالث هو إنفاذ خارطة الطريق التي قدمتها الحكومة السودانية للأمم المتحدة ببنودها الخمس، وهي لا تبتعد كثيرًا عما جاء في إعلان جدة. وكانت الخريطة المقدمة قد دعت لخروج المليشيا من المدن وتجميعها في مناطق محددة لحين تحديد مصيرها.كل هذه الخطوات لا تحتاج قرارات جديدة، بل إرادة تنفيذية فقط: القرارات الدولية موجودة، الأدلة موثقة.
٥
هذه المطلوبات الثلاثة تواجهها تحديات كبيرة، أولها أن الإمارات لن تستسلم بسهولة وستخوض معركتها حتى النهاية، و ولكن معركتها هذه المرة على ثلاثة جبهات وأكثر. أهمها جبهة أمريكا نفسها، وستسعى ابوظبى لاستنهاض اللوبي الصهيوني في واشنطن والكونغرس لمساندتها لمنع صدور قرار بتصنيف المليشيا كمنظمة إرهابية، كما ستستعين بكل بيوت الخبرة وشركات الاحتيال المعروفة في الميديا وتلك التي تعمل في مجال الضغوط ورشوة السياسيين.
سيناريو اخر يسعى فيها عملاءها خارج السودان وداخله لقيادة حملة ترويج أكاذيب حول طبيعة الصراع ومحاولة تصويره كأنه صراع بين الإسلاميين والقوى المدنية، وكذلك سترفع فزاعة إيران لإخافة اللوبي الصهيوني وتزوّده بمقولات تساعده في ممارسة ضغوط داخلية على ترامب مستخدمة تلك الفزّاعات.
سيناريو ثالث ستتظاهر فيه بوظبي، تحت الضغوط الدولية المتزايدة، بأنها أوقفت دعمها اللامحدود للمليشيا الذي تنكره أصلًا، ثم تدفع بدول أخرى إلى أتون المعركة. ستسعى لفعل ذلك مع دول الجوار بغرض توسيع الصراع ونقله من مكافحة تمرد مليشيا إلى صراع إقليمي. وما الزيارات المحمومة فوستان آرشانج تواديرارئيس أفريقيا الوسطى ومحمد كاكا الرئيس التشادي للإمارات والوعود التي بذلتها لهما إلا مقدمة لإنفاذ تلك الفكرة — لنقل الصراع إلى المجال الإقليمي.
بل إن ما كشفت عنه الصحافة الأسبوع الماضي حول إقامة معسكرات داخل إثيوبيا على حدود النيل الأزرق ليس بعيدًا عن ذلك السيناريو؛ سيناريو توسيع دائرة الحرب، وهو الأمر الذي ستستفيد منه أبوظبي، إذ إن إشعال إقليم الساحل كله والقرن الأفريقي يرفع الضغوط المنصبة الآن على الإمارات وحدها في هذه الأوقات.
ويمكن أن تلجأ أبوظبي إلى خطة بديلة، وهي نقل الصراع إلى الملف السياسي، بمعنى أن تسعى لتحقيق ما عجزت عنه بمليارات الدولارات التي دفعتها في محرقة الحرب دون جدوى، وذلك بالكسب في الساحة السياسية بفرض حل يعيد حلفاءها إلى سدة الحكم باعتبار أنها قدمت تنازلات ودفعت الدعم السريع للاستسلام وتفكيك نفسه وتسليم أسلحته. المقابل هو السيطرة على الحكومة المقبلة في السودان بواسطة عملائها.
هناك سيناريو أخير، وهو أن تستخدم ورقة عبد العزيز الحلو بعد أن تتخلى عن المليشيا المجرمة التي انتهت سمعتها عالميًا. وهذه الورقة القديمة الجديدة تتيح لها فرصة المناورة لبعض الوقت بخلط كيمان الصراع على أساس إثني أيضًا. فبدلًا من محاولة ترويج فرية صراع “زرقة وعرب” ستُحوّله إلى “شماليين ونوبة”. وتعلم أن الغرب له آذان مفتوحة لترويج مثل هذه الأكاذيب، وكل ذلك بغرض مواصلة الحرب في السودان تحت أي لافتة اخرى حتى تحقّق لأبوظبي غاياتها المستحيلة.
ربما لم تدرك أبوظبي حتى الان، وهي تخوض حروبها بالوكالة، أن للمعارك في السودان منطقًا آخر لا يشبه حروبها الاخرى ولا حسابات المال ولا رهانات النفوذ. السودان بلدٌ يأبى الهزيمة، وتاريخه الطويل علّم أبناءه كيف ينهضون كلما أُريد لهم السقوط. وبين رمال دارفور وحدود البحر الأحمر تكمن حقيقة واحدة: أن النار التي تُشعلها قوة غاشمة قد تمتد قليلًا، لكنها لا تبني سلطانًا ولا تحفظ مجدًا ولا تصنع انتصارًا.
6
المشكلة العويصة التي ستواجه الإمارات أنها هذه المرة لن تصارع السودان وحده، بل الإدارة الأمريكية والمملكة العربية السعودية اللتان ستلعبان دورًا رئيسيًا في إخماد الحرب، ومصر التي سينتقل إليها دور فاعل رئيسي في استتباب الأمن في حدودها الغربية، وذلك يعني مباشرة الحد من تدفقات السلاح والمرتزقة والنفط من الحدود الليبية، وهذه المرة بأمر العالم وتحت غطاء أمريكي.
7
كيف ستخرج أبوظبي من ورطة حربها في السودان؟ فلا هي كسبتها بالحديد والنار وبالمليارات التي أنفقتها وخسرتها، ولا باستطاعتها مواجهة أمواج ضغط عالٍ سعودي أمريكي وإقليمي… تلك ورطة كبرى لم تدخل مثلها في كل الحروب التي خاضتها بالوكالة في الإقليم.
ولكن ورطتها الأكبر لم تأتِ بعد… بعد انتهاء الحرب، ويا لها من ورطة كبرى.
8
قالوا إن ذئبًا اقتحم ليلًا زريبة للبهائم فالتهم منها حتى ثقلت بطنه وخرج، فنزلت الأمطار وابتلت الأرض وغاصت رجلاه في الطين فلم يقدر على الحركة. فجاء ثعلب ونظر لمنظر الذئب وهو متورط في الطين، فناداه الذئب: “أنقذني لقد تورطت!” فقال له الثعلب: “لا… لا، ورطتك ليست الآن، بل حين تشرق الشمس وييبس الطين ويتلم الناس… ذلك وقت الورطة الكبرى.”
حين تقف الحرب وتتكشّف الحقائق وتشكل لجان التحقيق الدولية وتبدأ المحاكم في مطاردة المجرمين مرتكبي الإبادة والداعمين وعملائهم… ذلك هو يوم الورطة الكبرى لأبوظبي.

اترك رد

error: Content is protected !!