
أحسن الفريق أول عبد الفتاح البرهان أن هاتف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهو يشد الرحال لواشنطن، وطلب منه أن يذكر السودان عند رب البيت الأبيض. وأحسن ابن سلمان صنعا حين أفسح في جدول أعماله المزدحم حيزا وافرا لأمر السودان وتناوله مع الرئيس ترامب بحجة ناصعة ولسان ذرب. وأحسن ترامب حين اصاخ السمع لضيفه وجعل للسودان وقتا مقدرا في خطابه في محفل الاستثمار السعودي الأمريكي. فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. وقد انشغل الناس أيما انشغال بحديث ترامب وذهبوا في تفسيره مذاهب شتى. وغلب على الواقفين خلف الجيش القول إن ما دار في واشنطن هو اعلان لوفاة الرباعية وميلاد لثنائية بديلة. غير أن من يتأمل في الملابسات المحيطة بالخطاب ويقيس الأشباه بالنظائر يرى أن هؤلاء قد أبعدوا النجعة. فما حدث يومها في واشنطن لن يمضي بعيدا! وبالرغم من أن هذا القول لن يرض أقواما، الا أنه وحده – فيما أرى – هو الذي تسنده الشواهد وتدعمه السوابق … مما نبسط بعضه في هذا المقال.
وأول ما يلاحظ في هذا التوجه الجديد للرئيس ترامب هو أنه وليد انفعال طارئ أثناء تلك الزيارة، وليس نتيجة لحراك واسع في واشنطن شمل الكونغرس ووزارة الخارجية ومستشارية الأمن القومي ووكالات الامن والمخابرات. فأمريكا هي بلاد المؤسسات. فحتى حين تكون مؤسسات الدولة الأمريكية في أضعف حالاتها كما هي الآن، وحتى حين تكون عبادة الفرد على أشدها كما هو الحال في إدارة ترامب الحالية، فإن المبادرات الفردية والانفعالات الوقتية لا تنتج سياسة مستدامة. والنموذج الكلاسيكي لذلك هو ما حدث بشأن غزة.
فقد زار نتنياهو الولايات المتحدة في ٤ فبراير الماضي وقدم لترامب شرحا وافيا لما يدور في غزة من وجهة نظره. وتبنى ترامب وجهة نظر نتنياهو تلك بشكل كامل. وفي مؤتمره الصحفي مع نتنياهو، قال ترامب إن الولايات المتحدة “ستتولى” غزة، وتهجر منها سكانها، وتجعل منها “ريفييرا الشرق الأوسط”. وأشار إلى احتمال إرسال قوات أمريكية إذا لزم الأمر. وقد تلقّت الحكومة الإسرائيلية ذلك الخطاب بترحيب شديد لا يقل عن الترحيب الذي تلقى به السودانيون تصريحات ترامب الأخيرة في السودان. غير انه، وكما ثبت لاحقا، لم يكن ترامب يعني ما يقول. وان كان كلامه ما كان الا محاولة لاسترضاء نتنياهو وتليين جانبه. بعد عدة أسابيع تراجع ترامب تراجعا كاملا وقدم خطة “الـعشرين نقطة” جاعلا منها أساس مبادرته للسلام في غزة. وإذا كان ترامب قد فعل ذلك مع نتنياهو – الذي هو نتنياهو – فليس هناك ما يمنعه من أن يكرر فعله ذاك مع ابن سلمان. وإذا فعله مع إسرائيل – وانت تعلم مدى نفوذها في أمريكا وقوة اللوبي الصهيوني فيها – فماذا يمنعه من ان يفعله مع السعودية. بل فعل ترامب ذلك مع روسيا.
ففي أغسطس الماضي حبس العالم أنفاسه في انتظار لقاء لترامب مع بوتين جُعلت له اهمية كبيرة، بل رمزية تاريخية. واستبق ترامب ذلك اللقاء بحديث عن “تبادل أقاليم” بين روسيا وأوكرانيا، وضمانات أمنية تتناولها المفاوضات مع بوتين. واستقبل ترامب بوتين في ألاسكا بالبساط الأحمر. وتبودلت الكلمات الودية والتلميحات التصالحية. غير أنه سرعان ما خمد ذلك الدفيء وتحول الى برود. مؤخرا عاد ترامب الى مربع المواجهة مع روسيا. وعلا الحديث عن فرض عقوبات على بوتين. وفي المقابل فتح ترامب ذراعيه لزيلينيسكي الذي كان قد طرده قبلا من البيت الأبيض بالمعنى الحرفي للكلمة. ولما كانت روسيا هي روسيا، واستعداؤها لا يكون بلا ثمن، فقد خيمت أجواء الحرب الباردة. في أكتوبر الماضي أعلن ترامب أنه أمر “وزارة الحرب” باستئناف التجارب النووية، التي كانت قد أوقفت منذ العام ١٩٩٢. ونكتفي بهذين الشاهدين من مواقف ترامب المتقلبة، ولا شك أن هذين الموقفين يذكران القارئ بمواقف مماثلة لترامب أشهرها اضطرابه بشأن الاتفاق النووي مع إيران.
ويعود السبب في تأرجح ترامب الى أن قراراته لا تبنى على مخرجات لحملة داخلية في مؤسسات الدولة في واشنطن ترمي لتغيير السياسة الامريكية، وانما هي تؤسس على انفعالات واستحسان شخصي. بل ان ترامب لم يتعود أن ينشئ فرقا متخصصة لضمان تنفيذ ما يعن له. فهو مثلا لم ينشئ فريقا لتنفيذ خطة تحويل غزة الى منتجع، ثم لم ينشئ فريقا لتنفيذ النقاط العشرين في مقترحه لتحقيق السلام. ومن ثم حين علمت حماس من اين تؤكل الكتف وقبلت ببضعة نقاط من خطة العشرين نقطة صفق ترامب لما عده إنجازا واعجازا. وبذات القدر لم ينشئ ترامب أي فريق للتحضير لقمة الاسكا او لمتابعة مخرجاتها.
ويقال نفس الشيء عن لقائه بابن سلمان. اذ لا تتوفر لدى ترامب آلية لمتابعة الملف الافريقي بأكمله فضلا عن السوداني. فحتى اليوم – وبعد عشرة أشهر من تنصيبه – لم يعين ترامب مساعدا لوزير الخارجية للشئون الافريقية؛ وهي الوظيفة الأولى في رسم وتنفيذ السياسة الامريكية تجاه افريقيا. بدلا من ذلك ابتدع ترامب منصب كبير مستشاري الرئيس لأفريقيا – وهو غير ذا توصيف محدد وخارج سياق وزارة الخارجية ومستشارية الأمن القومي – وأوكله لمسعد بولص الذي ليست له خبرة في افريقيا تتعدى الاتجار بالجرارات والمكينات الثقيلة في نيجيريا. غير أن ما أهله للمنصب، وكما هو معلوم، هو كونه والد زوج تيفاني الابنة الصغرى لترامب. ظن البعض أن القصد من ابتداع ذلك المنصب هو تأهيل بولص بعد ان يشتد عوده لشغل موقع مساعد وزير الخارجية الشاغر. غير أن فرص بولص في تولي المنصب قد تراجعت بسبب أدائه غير المؤسسي في مستشاريته تلك، والذي طبعته عقلية البيزنس والربح. مهما يكن فانه بسبب خلو هذه الوظيفة المهمة تضحي كل تصريحات ترامب عن أي شأن في أفريقيا أحاديث مجاملة ليس غير ولا يستتبعها أي فعل. أو كما يقال في بعض بوادينا “كلام بنات معديات بنات”.
ومن شواهد ضعف الأداء الأمريكي في افريقيا الناجمة عن غياب شخصية مركزية في الشأن الافريقي، التعثر الكبير الذي لازم تنفيذ اتفاق الكونغو ورواندا والذي كانت الولايات المتحدة الراعي الرئيسي له. وكان قد روج لذلك الدور أيما ترويج واعتبر توقيع الاتفاق في واشنطن في 27 يونيو الماضي فتحا لترامب. الآن بعد مرور حوالي خمسة أشهر فإن أهم شرط في ذلك الاتفاق، والذي هو انسحاب القوات الرواندية من شرق الكنغو، لم يتحقق. وحدث انفلات في الجدول الزمني لمواجهة الجماعات التي لا تتبع للدولة. وحيث أنه لا توجد آلية او نقطة ارتكاز focal point أمريكية للمتابعة، فقد اكتفت الولايات المتحدة على مدى الأشهر الماضية من عمر الاتفاق الذي رعته بالمشاركة في اجتماع وحيد عقد للجنة الرقابة المشتركة، وبتصريحات متفرقة يطلقها مسعد بولص من حين لآخر ينتقد فيها مسار التنفيذ.
ومما يزيد الطين بلة، ان خلو مقعد مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الافريقية قد تزامن مع عدم تعيين ترامب سفراء لقيادة السفارات الأمريكية في معظم انحاء افريقيا. فوفقا للعرف الذي جرى لديهم بتغيير السفراء مع تغيير الإدارات، شغرت تلك السفارات في انتظار تعيينات ترامب التي لم تتم حتى اليوم. وكما هو معلوم فإن السفير الأمريكي شخصية فاعلة ليس في تنفيذ سياسة بلاده فحسب، بل في صناعتها. وغني عن القول إن منصب السفير، او المبعوث الأمريكي الخاص في السودان ظل شاغرا منذ مغادرة توم بيريلو بذهاب إدارة بايدن. وحين تسمع ترامب يقول إنه بعد ثلاثين دقيقة فقط من لقائه مع ولي العهد السعودي وجه باتخاذ إجراءات بشأن السودان، تظن أنه سيتم فورا الإعلان عن تعيين مبعوث خاص جديد. وبالرغم من أن هذه هي الخطوة الأولى الصحيحة إذا كان ترامب ينوي فعلا ان يولي السودان عناية قصوى، لكن ذلك هو آخر ما يخطر له ببال. فترامب لا يعرف كيف يحرك دولاب الدولة او كيف تدار الدبلوماسية.
من ناحيتها، فإن السعودية – ورغم حسن النية الذي اتسم به موقف ولي العهد السعودي – ليست في وضع يجعلها تضغط لمتابعة تنفيذ التزامات ترامب. لا شك أن السعودية تمتلك، بسبب الجوار المباشر، شرعية أكبر من أي دولة خليجية أخرى في التعاطي في الملف السوداني مع أمريكا. هذا فوق أنها تمثل عنصر توازن مهم في مقابل التورط الاماراتي الذي لم يعد سرا. الا ان الرياض لا تستطيع اقصاء أبو ظبي أو التقدم عليها لدى العم سام، ولا هي بقادرة على ارغامها لتغيير سلوكها. فأي دفع بالملف السوداني بواسطة السعودية لدى أمريكا تعتبره أبو ظبي اهتماما “زائدا” من قبل الرياض لن يؤدي الا الى تصاعد وتائر التنافس بين البلدين دون أن يكون لذلك أي أثر ملموس في تنشيط منبر جدة او الضغط على الدعم السريع. فالتنافس الاقتصادي والسياسي المحتدم بين البلدين الخليجيين، من وراء ستار، يجعل التنسيق بينهما صعبًا. كما انه يصعب على السعودية ان تتصدى بشكل مباشر للرواية الإماراتية عن حرب السودان – والتي يعتبرها الغرب متماسكة – ومفادها أن الجيش السوداني مخترق من قبل الإسلاميين، وان تمكين الدعم السريع رغم سلبياته هو أقصر الطرق لمواجهة التطرف الديني. ورغم حديث ترامب الأخير لا تزال هذه الرواية، المدعومة إسرائيليا، هي الأكثر مقبولية لدى الدوائر الامريكية التي اعتادت على تقييم الصراعات عبر منظور “مكافحة الإرهاب”. وتفتقر السعودية للأدوات اللازمة للضغط على الامارات اذ لا يوجد اعتماد إماراتي اقتصادي أو أمني على السعودية يسمح للمملكة بفرض إرادتها. بل ان السعودية هي التي تعتمد على توازنات دقيقة مع الامارات في ملفات حساسة تمس الأمن السعودي المباشر مثل اليمن، والنفط، والبحر الأحمر. ومن ثم فإن الشرط الوحيد لنجاح السعودية في مسعاها في الشأن السوداني هو أن تحرك أمريكا لتتولى نيابة عنها مواجهة التعنت الاماراتي. وهناك عدة أسباب تمنع ترامب من أن يتبنى خطا كهذا.
فالولايات المتحدة تمتلك أدوات ضغط قوية ضد الامارات كمبيعات السلاح. وقد فعّلت واشنطن أخيرا هذا الكرت حين جمّدت مؤخرا صفقة طائرات F35 لاعتبارات التخوف من تسرب التقنية الامريكية الى الصين. وهناك ملف القيود على البنوك الإماراتية المرتبط بتجاوزات العقوبات الامريكية المفروضة على مختلف الجهات. وهناك الصفقات الأمنية والاستخباراتية، والتحويلات المالية، وامتيازات الوصول لأسواق الدولار. لكن في ظل ادارة ترامب أضحى الأمر أكثر تعقيدا وصار مجرد التلويح بمثل هذه العقوبات مستبعدا. فمصالح ترامب العائلية في الاستثمار في الامارات من الأهمية بمكان. ويكفي ان نشير منها فقط لمشروع “برج ترامب” في دبي، ولصفقة الباينانس في العملات الرقمية التي تبلغ قيمتها بليوني دولار. ونشير كذلك لتوطد العلاقات الشخصية بين نجلي ترامب، دونالد الإبن وايريك، وبعض المتنفذين من أعضاء الاسرة الحاكمة في أبو ظبي. كما ان اعتماد بعض المشاريع العائلية لترامب على تمويل او تراخيص تمنحها الامارات يجعل أي استعداء للامارات محفوفا بالمخاطر الشخصية بالنسبة لترامب.
ومن ثم فانه ليس من المأمول أن تنهض الولايات المتحدة وحدها للضغط على الامارات. ولن يتأتى أي ضغط على الامارات الا إذا تصاعدت الحملة العالمية الحالية – التي انطلقت منذ سقوط الفاشر – فأدت الى بروز تحالف دولي واسع: أمريكي، أوروبي، سعودي، تركي، مصري، وافريقي، يشكك في مصداقية الرواية الإماراتية عن حرب السودان ويجعل ممارسة الضغط سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا على أبو ظبي أمرا ممكنا. ويدخل ضمن ذلك التوافق على مقاطعة أسواق الذهب الاماراتي، وفرض عقوبات فعالة على وسطاء الأسلحة بما يمنع تدفقاتها. إذا توفرت ظروف دولية كهذه فانه يمكن للولايات المتحدة ان تفعل بعض أدوات الضغط لديها وتتخذ خطوات فعالة ضد الامارات مثل فرض عقوبات دقيقة على قنوات الاتجار بالذهب السوداني، وحظر الشحنات الجوية لمطار ام جرس، وتعقب قنوات تمويل المليشيا، ومراجعة علاقات التسليح الخاصة بأبي ظبي. وحيث أن مثل هذا التحالف العالمي لم يبرز بعد، فانه من الخطل التعويل على أي تغيير في الموقف الأمريكي.
لا يعني ما تقدم التقليل من أهمية تصريحات ترامب من حيث كونها تمثل تتويجا للحملة العالمية الراهنة ضد الدعم السريع وضد الامارات. اذ انها جاءت صريحة وانطلقت من أعلى منبر في عالم اليوم. غير أنه لا ينبغي أن نظن أن مجرد انطلاق تلك التصريحات يعني أن أبواب الدبلوماسية الأمريكية قد فتحت للسودان وسخرت له أدواتها الباطشة. فذلك أمر لا يزال بعيد المنال. ولا تزال أمريكا، ولا يزال العالم، يراوحان مكانهما ويستجيبان لضغوط الامارات ومحاولاتها أن تجعل من أي تفاوض أو منبر مجرد واجهة أخرى للتمكين للدعم السريع وإعادة مسانديه للسلطة. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
22 نوفمبر 2025






