
في لحظة مفصلية من عمر الأزمة السودانية، يتصدر اسم جبريل إبراهيم المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري، متزامنًا مع تحركات الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) التي أعادت تشكيل قواعد اللعبة في السودان، خاصة بعد بيانها الصادر في 11 سبتمبر 2025، الذي دعا إلى انتقال مدني خلال تسعة أشهر ورفض الحل العسكري.
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا جبريل الآن؟ ولماذا هذا التصعيد ضده تحديدًا في هذا التوقيت؟
جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، ووزير المالية في حكومة السودان، يقود واحدة من أكثر الحركات المسلحة تأثيرًا في تاريخ السودان الحديث. تأسست حركة العدل والمساواة في عام 2001 على يد خليل إبراهيم، مستندة إلى وثيقة “الكتاب الأسود” التي كشفت عن اختلالات التوازن في السلطة والثروة بين أقاليم السودان. ومنذ ذلك الحين، لعبت الحركة دورًا محوريًا في النزاعات المسلحة، خاصة في دارفور، قبل أن تدخل في مسار التسوية السياسية بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019.
لكن جبريل، الذي ورث قيادة الحركة بعد مقتل خليل في ديسمبر 2011 ، لم يكتف بالدور العسكري، بل انتقل إلى قلب السلطة الاقتصادية، متقلدًا وزارة المالية في فبراير 2021 ، في محاولة لفك الخناق الاقتصادي عن الدولة المنهكة. خلال فترة توليه، سعى جبريل إلى تنشيط العلاقات التجارية مع دول مثل إيران، ورفض الانصياع الكامل للمحاور الخليجية، خاصة الإمارات، التي كانت تسعى لتثبيت مصالحها الاستراتيجية في السودان، لا سيما في مشاريع الموانئ مثل ميناء أبو عمامة، الذي يُعتقد أنه كان جزءًا من مخطط أوسع للسيطرة على بوابة البحر الأحمر.
جبريل وقف حجر عثرة أمام هذا المخطط، معرقلًا الاستثمارات الإماراتية، ومثيرًا حفيظة أبوظبي التي كانت ترى في السودان ساحة مفتوحة لمشاريعها الاقتصادية والأمنية. هذا الرفض لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كشف عن صراع أعمق بين رؤيتين لمستقبل السودان: واحدة ترى في الانفتاح على القوى الإقليمية غير الخليجية فرصة لاستقلال القرار الوطني، وأخرى تسعى لتثبيت النفوذ عبر أدوات المال والاستثمار.
في هذا السياق، جاء قرار وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على جبريل إبراهيم وكتيبة البراء بن مالك في 13 سبتمبر 2025، متهمةً إياهما بتأجيج الحرب والانتهاكات ضد المدنيين، وارتباطهما بجماعة الإخوان المسلمين. والمفارقة أن الولايات المتحدة كانت في السابق ترى في حركة العدل والمساواة شريكًا محتملًا في عملية السلام، بل إن بعض دوائرها دعمت الحركة ضمن جهودها لإعادة التوازن في دارفور، خاصة بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020. فما الذي تغير؟ ولماذا هذا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي؟
التحليل يقودنا إلى فهم أعمق لحالة الازدواجية داخل دوائر القرار الأمريكية التي أصبحت أكثر تأثرًا بتقارير منظمات الضغط، وبعض مراكز الأبحاث التي تُتهم بتقديم معلومات مجتزأة أو مشوهة عن الوضع في السودان. فتصنيف جبريل ضمن الإسلاميين، رغم أن حركته ذات طابع قومي أكثر من كونها دينية، يثير تساؤلات حول مدى دقة هذه التقارير، ومن يقف خلفها، وما إذا كانت تعكس مصالح حقيقية أم أجندات إقليمية.
الرباعية، التي أصدرت بيانًا صارمًا في 11 سبتمبر 2025 ، لم تكن مجرد وسيط، بل تحولت إلى مدير مباشر للعملية السياسية، تحدد من يشارك ومن يُقصى. وتوقيت العقوبات على جبريل بعد البيان مباشرة يكشف عن استراتيجية استباقية لتحييد الأطراف التي تُعتبر معرقلة، خاصة تلك التي لا تنخرط في التفاهمات الإقليمية الجديدة.
لكن هل جبريل فعلاً معرقل؟ أم أنه يمثل تيارًا يحاول الحفاظ على استقلال القرار السوداني في مواجهة الهيمنة الخليجية؟ وهل رفضه للمشاريع الإماراتية، وتوجهه نحو إيران، كان خيارًا استراتيجيًا أم رد فعل على تهميشه في ترتيبات ما بعد الحرب؟ هذه الأسئلة تفتح الباب أمام قراءة مختلفة للمشهد، ترى في جبريل ليس مجرد قائد ميليشيا، بل فاعل سياسي يحاول إعادة تعريف العلاقة بين السودان ومحيطه.
التحرك الإماراتي، المدعوم ضمنيًا من واشنطن، يبدو أنه يسعى لتطبيق نموذج جديد في إدارة الأزمات، يقوم على تصفية القوى غير المنضبطة، وإعادة هندسة المشهد السياسي وفق مصالح إقليمية. فالسودان، الذي يُنظر إليه الآن كمنصة اختبار لتسوية إقليمية قد تُطبق لاحقًا في ليبيا أو اليمن، أصبح ساحة لتجاذب النفوذ بين الخليج وإيران، وبين الإسلاميين والقوى المدنية، وبين من يسعى للسيطرة على الموانئ والثروات، ومن يحاول الحفاظ على السيادة الوطنية.
جبريل، في هذا السياق، يتحول إلى رمز للازدواجية في التعاطي الدولي مع الأزمة السودانية. فهو من جهة يُتهم بتأجيج الحرب، ومن جهة أخرى يُعتبر أحد مفاتيح الحل الاقتصادي. وهو من جهة يُصنف كإسلامي، ومن جهة أخرى يقود حركة ذات طابع قومي. وهو من جهة يُعاقب على علاقاته مع إيران، ومن جهة أخرى يُتهم بعدم الانخراط في التفاهمات الخليجية.
١٤ سبتمبر ٢٠٢٥م