الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

لحظة التأسيس

د. امجد عمر محمد



يمثل الاستقلال في مسار الأمم لحظة مفصلية تُعاد فيها صياغة معنى الدولة، وتُبنى على أساسها الهوية الجامعة، وتُرسَّخ من خلالها قواعد السيادة والمؤسسات. فبالاستقلال لا تنتهي فقط سلطة الخارج، بل تبدأ مسؤولية الداخل في بناء دولة عادلة، متماسكة، وقادرة على إدارة تنوعها وحماية مصالحها العليا. ومن هذا المنطلق، فإن استقلال السودان عام 1956م لم يكن إعلاناً سياسياً فحسب، بل كان بداية مشروع وطني كبير لبناء الدولة السودانية الحديثة، مشروع تعثّر لاحقاً، لكنه لم يفقد شرعيته ولا ضرورته.
ليست العودة إلى عام 1956م ترفاً فكرياً ولا حنيناً رومانسياً إلى الماضي، بل هي استدعاء واعٍ للحظة التأسيس الأولى، حين تشكّل الوعي الوطني على قاعدة التوافق الاجتماعي والاعتزاز الثقافي، وحين كان الاختلاف سياسياً لا وجودياً، والرأي متعدداً دون أن يتمزق النسيج العام للمجتمع. تلك اللحظة تحمل من الدروس ما يجعلها اليوم مرجعية ضرورية لتعديل المسار، وإعادة بناء الدولة على أسس صحيحة تعزز الاندماج الاجتماعي والثقافي، وتغلق أبواب التفرقة والشتات.
لقد نشأ المجتمع السوداني على أخلاق سمحة، وثقافة تسامح، وقيم أصيلة قوامها التعايش، والنفير، والتكافل، واحترام الآخر. لم يكن الصراع جزءاً من طبيعته، ولم تكن الكراهية مكوّناً أصيلاً في وجدانه الجمعي. وما أصاب السودان لاحقاً لم يكن نابعاً من داخله بقدر ما كان نتاج تدخلات مصالح خارجية، وصراعات أُسقطت على الواقع الداخلي، وخطابات صُنعت بعناية لزرع الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد. وما يُتداول اليوم من سرديات انقسام ليس إلا ذرائع لزرع الفتنة، استغلت طيبة هذا الشعب ونقاء سريرته، فابتلع الطُعم في مراحل سابقة.
غير أن الوعي الذي بدأ يتشكّل اليوم يفرض واقعاً جديداً، واقعاً يقتضي العزل الصارم لكل من يحاول الاستثمار في الفتنة، والتوحد حول ما يعزز التلاحم الاجتماعي، والاتفاق على أن المصلحة العليا للدولة تعلو على كل انتماء ضيق. فالدولة لا تقوم بالشعارات، بل بتماسك مجتمعها، ولا تستقر إلا بقوة مؤسساتها. والمؤسسات الوطنية ليست ملكاً لحكومة أو جماعة، بل هي ملك للشعب كله، وحمايتها والمحافظة عليها واجب وطني وأخلاقي يقع على عاتق الجميع، لأنها صمام الأمان لوحدة البلاد واستمرارها.
ولأن الثقافة هي الوعاء الأصدق للوعي، فقد لعبت منذ فجر الاستقلال دوراً مركزياً في توحيد السودانيين. عبّرت الأغنية الوطنية عن روح الوطن الواحد، وغنّت للحرية والكرامة والإنسان. حين صدح محمد وردي:
«اليوم نرفع راية استقلالنا
ويسطر التاريخ مولد شعبنا»
كان ذلك إعلاناً ثقافياً عن ميلاد أمة تؤمن بذاتها. وحين تغنى الكابلي بحب الوطن، لم يكن ذلك ترفاً شعرياً، بل ترسيخاً لقيمة أخلاقية ترى في الوطن مسؤولية قبل أن يكون شعاراً.
إن بناء الدولة السودانية الحديثة لا يمكن أن يتم دون أن تلعب الثقافة والمجتمع دورهما الأساسي في رسم المستقبل، ودون استثمار الوعي الجمعي في تعزيز الوحدة، وتقوية المؤسسات، ونبذ كل أشكال التفرقة. فالدول لا تنهض بتغيير الوجوه وحده، بل بتغيير الأفكار التي تحكم مسارها، وبإحياء روح التأسيس الأولى التي جمعت السودانيين على كلمة سواء.
وفي الختام، لا يختصر معنى الوطن مثلما اختصره صوت محمد خليفة العطبراوي وهو يعلنها صادقة، واضحة، جامعة:
«أنا سوداني… أنا»
ليست مجرد أغنية، بل موقف ووعي وانتماء، يذكّر الجميع بأن الحفاظ على الدولة ومؤسساتها واجبنا جميعاً، وأن السودان لا يُبنى إلا بوحدة أبنائه، وثقافتهم، وأخلاقهم، وإيمانهم بوطن واحد يتسع للجميع.

اترك رد

error: Content is protected !!