الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

قوموا إلى معركتكم… ينصركم الله

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

لم تكن حرب الكرامة و معاركها في السودان مجرد صراعٍ مسلّحٍ بين طرفين، بل امتحانًا شاملًا لإرادة الدولة وشعبها في الدفاع عن العزة والسيادة. وبينما تُراق دماء الأبرياء في الفاشر وبارا، تخرج علينا مبادراتٌ دولية تحمل عناوين براقة مثل “الهدنة الإنسانية” و“التفاؤل الحذر”، لكنها في جوهرها حلولٌ مؤقتة تتجاهل جوهر الأزمة وتؤجل العدالة.

في هذا المشهد الملتبس، يبقى القرار الوطنيّ المستقلّ هو الفيصل بين الفعل وردّ الفعل. فحين تمتزج المصالح الإقليمية والدولية بدماء المعارك المحلية، وتختلط شعارات الإنسانية بأصوات الأجندات، لا خلاص إلا بوعي الشعب وقيادته ووحدتهما في مواجهة هذا العدوان المركب.

اليوم لم يعد السؤال: هل نريد السلام؟ بل: أيّ سلامٍ نريد؟ أهو سلامٌ يُبرّد جرح الوطن مؤقتًا ليعود النزيف أشدّ؟ أم سلامٌ يُفرض من الخارج فيكرّس واقع ميليشيا الدعم السريع المتمردة ويفكّك الدولة؟

في هذا السياق، جاء تصريح وزير الخارجية السوداني محيي الدين سالم صادقًا ومعبرًا عن نبض الشارع حين قال: «لا صوت يعلو صوت المعركة، وإن كنتم تنتظرون عونًا خارجيًّا من هذا المجتمع الدولي الظالم فعلى الدنيا السلام.» إنها ليست كلمات غضب، بل صيحة وعيٍ ونداءُ شرفٍ وكرامةٍ بأن المعركة لم تعد خيارًا بل قدرًا وواجبًا. النصر لن يأتي من واشنطن ولا من بيانات الرباعية، بل من صدور الرجال الذين آمنوا بوطنهم، ومن وحدة الكلمة والصف والإرادة.

أما كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية والعربية مسعد بولس، فقد جاء حديثه في القاهرة محمّلًا بمقترحاتٍ أمريكيةٍ لما سمّاه “وقفًا إنسانيًا مؤقتًا”، يتراوح بين ثلاثة وتسعة أشهر، مع لجانٍ للمراقبة والمتابعة اللوجستية. لكنه طرحٌ تزامن مع أحداثٍ ميدانيةٍ دامية في الفاشر وبارا، ما جعل كثيرين يرون فيه محاولة لمنح مليشيا الدعم السريع فرصة لإعادة التموضع أكثر من كونه مسعىً لوقف المأساة.

العبارةُ “قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله” نداءٌ ربانيٌّ إلى التهيؤ والفعل والالتزام. وعندما نقتبسها بصيغةٍ وطنيةٍ تقول «قوموا إلى معركتكم… ينصركم الله»، فإننا نُعيد إنتاج المعنى في بُعده الرسالي لأداء واجبٍ لا يحتمل التأجيل، والنصر مرهون بالعمل والإخلاص لا بالانتظار. إنها دعوةٌ لتحريك الضمير الوطني وتوحيد الوجدان حول القيادة الشرعية، وحماية السيادة والعزة من محاولات الاختراق تحت شعارات المساعدة الدولية.

بتتبّع مواقف مسعد بولس، نجد أنه أعرب عن “تفاؤلٍ حذر” بإمكانية الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، مؤكّدًا وجود تجاوبٍ من الطرفين، وبخاصة الجيش السوداني. لكنه لم يقدّم حلولًا ميدانيةً ملزمة تُجبر ميليشيا الدعم السريع المتمردة على الكف عن جرائمها أو الانسحاب من المدن. وبذلك، تبدو مقترحات الرباعية — وإن اتسمت بلبوسٍ دبلوماسيٍّ — بعيدةً عن معالجة جوهر القضية، و عن تحقيق المساءلة، وقطع الإمداد، وردّ الحقوق لأهالي الفاشر وبارا.

تزامنت هذه التصريحات مع دخول ميليشيا الدعم السريع المتمردة إلى المدينتين وارتكابها فظائع موثقة في تقارير حقوقية دولية، من قتلٍ ونهبٍ وتشريدٍ ممنهج. لذلك فإن أي حديثٍ عن هدنةٍ جديدة في هذا التوقيت يثير شكوكًا جدية حول نوايا الوسطاء، ويمنح المتمرد فرصة لإعادة الانتشار والتعافي.

إن التداعي الواسع والحملات الإعلامية والحقوقية الدولية التي انتشرت مؤخرًا بشكل غير مسبوق، والتي كشفت انتهاكات ميليشيا الدعم السريع وفضائعها ضد المدنيين، باتت تحاصر وتفضح أيضًا داعميها ومموليها، وعلى رأسهم دولة الإمارات. هذا التحول في المزاج الدولي يُعد فرصة نادرة يجب على السودان استثمارها لتثبيت روايته العادلة، وفضح من يقف وراء آلة الحرب والدمار، لا أن تُبدّد بحديثٍ عن هدنةٍ جديدةٍ تُربك المشهد وتمنح المجرم فرصةً لالتقاط أنفاسه. إن أي هدنةٍ في هذا التوقيت ستكون إساءةً لاستثمار لحظة الحقيقة التي انكشفت فيها خيوط العدوان وأطرافه.

أما “الرباعية الدولية” (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات)، فهي تضم أطرافًا تحوم حول بعضها علامات استفهام بشأن الحياد، إذ تُشير تقارير إعلامية وتحليلية إلى ارتباطاتٍ مباشرةٍ بين بعض أعضائها والدعم الميداني لمليشيا الدعم السريع المتمردة، وهو ما يضع الوساطة كلّها في موضع المساءلة الأخلاقية والسياسية.

تصريحات وزير الخارجية السوداني تضع النقاط على الحروف بأن لا مستقبل لوطنٍ يظلّ رهين الوعود الدولية، ولا سلام يُصنع على مقاس المتآمرين. هذا الموقف ليس تشدّدًا، بل إنذارٌ وطنيٌّ صادق بضرورة تفعيل القرار الوطني وتوحيد الصفوف، فالتجارب أثبتت أن الرهان على الخارج خاسر، والاعتماد على الذات هو طريق الكرامة والسيادة.

وليس المطلوب رفض الوساطة الدولية من حيث المبدأ، بل إخضاعها لمعايير العدالة والإنصاف. فهل تتضمن المقترحات بنودًا واضحة للمساءلة؟ هل تُقطع خطوط الدعم والإمداد عن ميليشيا الدعم السريع المتمردة؟ هل تُلزمها بالانسحاب من المدن المحتلة؟ إن غابت هذه الأسئلة، تحوّلت الهدنة إلى مكسبٍ تكتيكيٍّ للمتمرد لا أكثر.

الجرائم الموثقة في الفاشر وبارا من قتلٍ واختطافٍ وانتهاكٍ ودمارٍ شامل جعلت الشارع السوداني يرفض أي حوارٍ مع ميليشيا ارتكبت كل هذه الفظائع. لا يمكن لسلامٍ حقيقي أن يقوم على التسوية مع الجاني، بل على العدالة أولًا، والمحاسبة ثانيًا، واستعادة الأرض ثالثًا.

لقد أثبتت تجارب الهدن السابقة أن ميليشيا الدعم السريع المتمردة كانت المستفيد الأول منها؛ تستغلها لإعادة التموضع، وتجديد الإمداد، والتحصن داخل الأحياء المدنية. لذلك، فإن أي هدنةٍ جديدةٍ دون شروطٍ صارمةٍ ومراقبةٍ شفافةٍ ستكون تكرارًا للفشل نفسه. التوقيت غير مناسب قبل استعادة الفاشر وبارا وبسط سيطرة الدولة على كامل ترابها.

ثمة إجماعٌ وطنيٌّ عريض بين القيادة السياسية والعسكرية والمجتمع المحلي على أن أي حلٍّ لا يتضمّن استسلام ميليشيا الدعم السريع المتمردة ووضع سلاحها والتجمع في معسكراتٍ مراقَبةٍ هو حلٌّ ناقص ومليء بالمخاطر. فريضة الوقت الآن هي التماسك الشعبي، وتوحيد القرار الوطني، وإغلاق الباب أمام المتربصين، وإعلاء المصلحة الوطنية العليا فوق أي اعتبار آخر.

حين نقول «قوموا إلى معركتكم… ينصركم الله»، فإننا ندعو إلى استنفارٍ وطنيٍّ شامل بكل الوسائل المشروعة من تعبئة سياسية ومجتمعية، دعم لوجستي ومادي للجهد الوطني، واستعداد منظم للدفاع عن الأرض والكرامة. إنها ليست دعوة للعنف، بل نداء للواجب، ودفاع عن سيادةٍ تُنتهك وكرامةٍ تُستباح.

إن الوساطات الدولية قد تساهم في تخفيف المعاناة إذا جاءت متسقةً مع العدالة والإنصاف، لكن انتظار الحلول من الخارج دون عملٍ وطنيٍّ جاد إنما هو استسلامٌ مُبطَّن. فبعضنا يعلّق الأمل على واشنطن ومسعد بولس منتظرين الفرج، وينسى أن النصر من عند الله وحده، وأن قوة الشعوب في إيمانها ووحدتها لا في بيانات الآخرين و تحركاتهم.

إن «قوموا إلى معركتكم… ينصركم الله» ليست مجرد عبارةٍ حماسية، بل نداءٌ للوعي والكرامة، ودعوةٌ للقيام بالواجب الوطني في لحظةٍ فارقةٍ من تاريخ السودان. لا نقول لا للسلام، بل نقول لا لسلامٍ يبقى فيه الجاني منتصرًا والضحية منكسرةً ومهمشة. فالشعب السوداني، بقياداته المخلصة، قادر على استعادة سيادته وكرامته، شريطة أن يكون قراره موحّدًا، وأن تُعلَى مصلحةُ الوطن فوقَ كلِّ حسابٍ. أدام الله للسودان عزًّا وسيادةً، وحمى شعبه من كل أذى.

الثلاثاء 4 نوفمبر 2025م

تعليقان

اترك رد

error: Content is protected !!