الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

قضية التجسس في إسطنبول : هل أخفت أنقرة هوية الفاعل الحقيقي أم فرضت شروطها عليه؟


في ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥ أعلنت نيابة إسطنبول تفكيك خلية تجسس استهدفت قطاع الدفاع التركي وعددًا من المسؤولين الحكوميين. البيان الأول الذي نُشر رسميًا بالشأن أشار بشكل صريح إلى تورط جهاز الاستخبارات الإماراتي، لكن بعد ساعات معدودة تم حذف البيان واستبداله بآخر استخدم عبارة فضفاضة هي “جهة أجنبية”. صور الشاشة للبيان الأصلي انتشرت سريعًا قبل حذفه، لتصبح عملية التعديل نفسها حدثًا إعلاميًا لافتًا و ربما أكثر من الحدث ذاته.

ما الذي جرى فعليًا؟

ألقت الشرطة التركية القبض على ثلاثة مديرين تنفيذيين في شركات دفاعية حساسة، فيما صدرت مذكرة توقيف دولية بحق مشتبه به رابع خارج البلاد. استخدمت الخلية خط هاتف تركي، إضافة إلى هويات رقمية مزيفة، لجمع معلومات شخصية ومهنية عن مسؤولين في قطاع الدفاع ومحاولة الوصول إلى هاتف تابع لوزارة الخارجية. البيان الأول ذكر تفاصيل مباشرة عن نقل الخط إلى الإمارات وتسليمه لعناصر استخبارية هناك، لكن النسخة المتاحة الآن لا تحتوي على أي إشارة للإمارات.

القراءة السياسية والاستخبارية:

ورغم التحسن الواضح في العلاقات السياسية والاقتصادية بين أنقرة وأبوظبي منذ ٢٠٢١، فإن التنافس الاستراتيجي لم يختفِ تمامًا. أبوظبي تنظر بقلق تجاه تصاعد قدرات الصناعات الدفاعية التركية، التي ارتفعت صادراتها بنسبة ٢٩٪ في عام ٢٠٢٤، وخصوصًا في مجال الطائرات المسيّرة التي لعبت دورًا مؤثرًا في عدد من الملفات الإقليمية.
جمع بيانات حساسة عن مسؤولي الدفاع والسياسة الخارجية يُعد خطوة كلاسيكية تستهدف فهم شبكات التأثير، واستشراف مسارات المستقبل، وربما خلق أدوات ضغط لاحقة. هذا النمط من العمل الاستخباري ارتبط بدول عدة في المنطقة، من بينها الإمارات في ملفات سابقة داخل تركيا وخارجها، ما يجعل الاتهام الأولي أقرب من الواقع و أكثر قبولاً للتصديق.

لماذا حُذف اسم الإمارات من البيان؟

التحليل الأقرب لأسباب الحذف يشير إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
١. المعادلة الاقتصادية الحساسة: حجم الاستثمارات الإماراتية في تركيا كبير، والتصعيد العلني قد يخلق توترات اقتصادية غير مرغوبة.
٢. ورقة ضغط مؤجلة: جهاز الاستخبارات التركي يحتفظ بكامل الأدلة الرقمية، ما يمنحه هامشًا واسعًا لاستخدام الملف مستقبلًا عند الضرورة الاستراتيجية دون كشفه إعلاميًا.
٣. تفاهمات خلف الستار: من المرجح أن طلب الحذف جاء من جانب أبوظبي، وأن أنقرة وافقت عليه مقابل تفاهمات تتعلق بملفات إقليمية حساسة يُفضل الطرفان عدم إثارتها علنًا.
هذه المقاربة هي ما يطلق عليه فى تركيا “القبضة الناعمة”: ضغط هادئ، غير صاخب، لكنه مؤثر وموجّه بعناية.

انعكاسات الحدث على خارطة النفوذ في المنطقة:
يمتد تأثير الحادث إلى ملفات إقليمية متشابكة، من السودان إلى ليبيا وقطر، وإن كان لكل ملف خصوصيته وحساسيته.
في السودان، أعاد الكشف التركي إحياء النقاش حول الاتهامات الموجهة إلى الإمارات بدعم مليشيا الدعم السريع، وهي اتهامات تستند إليها تقارير أممية ومنظمات حقوقية دولية وتتحدث عن انتهاكات خطيرة وجرائم واسعة النطاق. ومع تزايد حساسية الرأي العام السوداني و الإقليمى و الدولى تجاه أي تدخل خارجي يزيد من معاناة المدنيين فى السودان، تبدو أبوظبي أمام ضغوط متنامية. تركيا، التي تتعامل بحذر بالغ مع الملف السوداني وتتجنب الظهور في صورة المنحاز لطرف بعينه، باتت تمتلك اليوم ورقة إضافية يمكن استخدامها في اللحظة المناسبة ضمن توازنات المنطقة المعقدة.
وفي ليبيا، لطالما كان الدعم الإماراتي للمشير خليفة حفتر نقطة خلاف أساسية، بينما تتمسك أنقرة بدعم حكومة طرابلس. حادث إسطنبول يقدم لتركيا ورقة تذكير مبطنة بأن استمرار الرهان الإماراتي على حفتر قد يحمل كلفة سياسية إضافية.
أما قطر، فشهدت علاقاتها مع أبوظبي توترات عاصفة في السابق، وتستفيد اليوم من كل اهتزاز في صورة الإمارات إقليميًا، ما يعزز محورها مع أنقرة ويقلل من قدرة أبوظبي على العودة إلى سياسات الضغط الإعلامي أو الاقتصادي التي كانت ديدن سنوات التوتر العلنى فى علاقات الدولتين الخليجيتين.

القبضة الناعمة الاستخبارية التركية:

النهج التركي القائم فى قضية التجسس الإماراتية يقوم على إدارة الخلافات عبر الصمت المدروس، وليس عبر الضجيج العشوائى.
فلا إعلان صريح ولا تنازل مجاني،
الملفات تُفتح ثم تُغلق، لكن أبوابها تظل قابلة لإعادة الفتح في الزمن المناسب، والأدلة محفوظة، والقضية قائمة، والثمن سيُحصّل حين ترغب أنقرة، لا حين يطلب الأخر.

خاتمة:


ما حدث في إسطنبول لم يكن مجرد عملية أمنية، ولكنه رسالة سياسية محسوبة، مفادها أنه يمكن لأبوظبي أن تتحرك في الظل، لكن أنقرة تستطيع أن تكشف هذا الظل إذا شاءت، أو أن تستثمر وجوده بهدوء للحصول على ما تريد.
و الدرس المستفاد هنا هو أن المعركة في جوهرها لا يجب أن تُقاس أبعادها بالبيانات التي تُنشر، بل يتعين أن تُقيم نتائجها بالبيانات التي تحذف.

اترك رد

error: Content is protected !!