الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

قرارات الجيش، سنة الحياة و استمرار المسيرة

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

ضجت الأسافير مساء الأمس ، بما يفيد قيام الجيش بحركة روتينية من ترقيةٍ للرتبة الأعلى و احالة للتقاعد لبعض ضباطه، ورد ذلك في تعميم صحفي للناطق الرسمي للقوات المسلحة أفاد فيه بالاتي:
(أصدر السيد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان قرارات بترقية عدد من الضباط من دفعات مختلفة للرتبة الأعلى ، وإحالة آخرين للتقاعد بالمعاش.)
و اوضح التعميم الصحفي التالي :
( تأتي هذه الإجراءات الراتبة طبقا لقانون القوات المسلحة واللوائح المنظمة لها).

هذا الإجراء، إنما هي عملية يقوم بها الجيش و كافة القوات النظامية الأخرى بشكل راتب وسنوي. لكن، هذه المرة تلازم هذا الاجراء الطبيعي مع انجازات كبيرة ومهام عظيمة قام و يقوم بها الجيش متمثلاً في افراده و منسوبيه و قادته في معركة الكرامة المستمرة و المستعرة في وجه قوات التمرد و مليشياته و مرتزقته، و تسربت الى الاسافير و وسائط التواصل الاجتماعي أسماء بعض من طالتهم يد التغيير احالةً للتقاعد ممن يمثلون رموزاً للعز و ايقونات للفخار في هذه الحرب التاريخية، هذا الامر انعكس سلباً على العامة و ترك اثراً عميقاً غالبه الحزن و الأسى.

عليه نقول، انما هي تراتبية الجيش و مطلوبات حركة دورة حياته و نظامه الداخلي الصارم ، التي يثبت (الجيش) من خلالها ومع رصيفاته من المنظومات الامنية و الشرطية انها الوحيدة في بلاد السودان _ و من بين كل مؤسساته الحكومية _ التي تحافظ على لوائحها و قوانينها و تحترم هياكلها التنظيمية و مهامها و واجباتها و من ثم وصفها الوظيفي، لتؤكد انها مؤسسة محترمة و محترفة، وهي سنة المؤسسات الحكومية، يخرج البعض في قمة الهرم ليدخل اخرون من قاعدته، تبادلاً للرايات و توالياً للاجيال ، و للمؤسسة (الجيش) حسبتها و توازنها الداخلي الذي يحفظ تماسكها، وما يحدد كل ذلك جملة من العوامل البيئية الداخلية و الخارجية ذات صلة بالمؤسسة، ويهمنا هنا التوازن بين حفاظ الجيش على واجباته الآنية من صد العدو و دحره و هزيمته و كسره، وبين استمراره في دورة حياة طبيعية و صحية، يحال البعض للتقاعد و يخرجون لفضاء الحياة العامة، ليدخل اخرون في عنفوان الصبا و يفاعة الشباب تجديداً للدماء الزكية الطاهرة المدخرة للزود عن الحياض و الدفاع عن السيادة.

للقيادة تقديراتها و للنظم و اللوائح و القوانين نهجها الصارم في فرض نظام حركي آلي كل عام، و الجيش تنظيمه الذي يحافظ عليه مع كل موروثاته الاخرى و هو عبارة عن شواغر وظيفية، ولا يحدث كل ذلك الا وفق(تحريك مطلوب كل عام) رغم مرارته على قلوبنا في كثير من الأحيان، يفرح البعض للتقدم و الترقي و الرفعة، و يحزن آخرون للتقاعد و المفارقة، لكنها سنة الحياة كما اسلفنا و لا مكان للعاطفة الحزينة.

يذهب (الجنرال نصر الدين) و هو عالي الجبهة، مرفوع القامة و المكانة بعد جهد و جهاد و ثبات و صمود اسطوري عجيب، و ياتي نصر الدين جديد، يمضي (القائد نادر) قائد حاجز الصد الاول و الصخرة التي تكسرت عندها موجة التآمر الاولى عند بيت الضيافة دفاعا عن القائد العام الرمز وبما افشل المخطط كله، و يأتي (الف نادر) آخر من بين فرث و دم جيش يضج بالوفرة في البطولة و الابطال و يتسم بالندرة في الخيابة و الخيانة في اوساط منسوبيه. يمضي كل منهما و دونهما عدد من الضباط بعد ان ادوا ادوارهم البطولية بكل رجولة و بكل مهارة و اقتدار، و بما يجعلهم محل فخر و تاج عز لانفسهم و لمريديهم و محبيهم و لخاصة اهلهم و احبابهم.

فعلها الخليفة المسلم سيدنا عمر بن الخطاب و هو يعزل القائد الصحابي سيدنا خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) و هو يقود حملة الشام من بعد انتصاره في معركة اليرموك من العام 15 هجرية الموافق 636 ميلادية، خالد بن الوليد الذي تحقق على يديه كثير من انتصارات المسلمين و فتوحاتهم، فعلها وابن الوليد في ذروة نجاحاته و قمة شعبيته، فعلها و عين خلفاً له الصحابي الجليل سيدنا ابوعبيدة عامر بن الجراح، هذا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحبه و نقدره و ذلك من صاحبته كذله نجله و نعظمه، فعلها خليفة المسلمين حينها لتقديرات القيادة ميداناً و مجتمعاً. فالمسيرة لم و لن تتوقف، و المعركة لم تنته بعد و العدو لا يزال يتربص بنا الدوائر و لنحسن الظن بأنفسنا و بغيرنا و لنقوم الى معركتنا عسى ان يرحمنا الله و ينصرنا بنصرٍ عزيزٍ من عنده و يهبنا فتحاً قريباً.

وهكذا، فإن ما جرى ليس إلا صفحة من صفحات دورة الحياة العسكرية التي تعاقب عليها أجيال وأبطال، يمضي فيها بعض القادة شامخين بما قدموا، ويصعد آخرون ليحملوا الراية من بعدهم. وتظل القوات المسلحة قادرة على الموازنة بين الوفاء لتاريخها، والتطلع إلى مستقبلها، مستندة إلى إرث من التضحيات والبطولات، وإلى رصيد من الدماء الزكية التي روت أرض الوطن.

إنها سنة الجيوش الحية، لا تعرف الجمود ولا الركون، بل تتجدد كما تتجدد روح الوطن، وتستمر المسيرة مهما تبدلت الأسماء والوجوه، لأن الهدف واحد و هوصون السودان وحماية سيادته حتى النصر المبين.

إنها لحظة تختلط فيها مشاعر الفخر بالحزن، فخر بما قدمه أولئك الضباط من بطولات وتضحيات في ميادين الشرف، وحزن على فراقهم لصفوف الخدمة الفعلية بعد أن كانوا أعمدةً وسندًا في معركة الكرامة. لكنهم وإن غادروا بزّاتهم العسكرية، فإن أثرهم سيظل باقيًا في ذاكرة الجيش والوطن، وسيظل تلاميذهم وجنودهم يرددون سِيَرهم كمنارات تهدي وتلهم.

فالجيش، بطبيعته، لا يتوقف عند شخص ولا عند رتبة، وإنما يسير بدماء متجددة تحمل الراية جيلاً بعد جيل. ومن مضى اليوم إلى التقاعد، فقد مضى مرفوع الرأس، مكللًا بوسام الواجب والوفاء، ليترك مكانه لأبناء جدد يكملون الطريق. هكذا تصنع الأمم تاريخها، وهكذا تبقى القوات المسلحة السودانية مؤسسةً راسخة، لا يحدها زمان ولا مكان، شعارها الدائم هو وفاء للأمس، وثقة بالحاضر، وعزم على النصر غدًا.

الاثنين 18 اغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!