أصدر مولانا علي عثمان قاضي محكمة الموضوع المتعلقة بقضية إثارة الحرب ضد الدولة، والتخطيط لاغتيال الدكتور عبد الله آدم حمدوك رئيس الوزراء السابق وتاج السر الحبر النائب العام الأسبق ووجدي صالح وصلاح مناع وآخرين، حُكماً بعد ثماني جلساتٍ طوالٍ تدوالت خلالها مُجريات الاتهام من الأطراف كافة، بمقتضاه برأت المحكمة أمس (الخميس) كل من البروفسور إبراهيم غندور وزير الخارجية الأسبق واللواء – أمن – معاش أنس عمر وكمال الدين إبراهيم رئيس المجلس التشريعي بولاية نهر النيل ومحمد أحمد حاج ماجد والدكتور محمد علي الجزولي رئيس حزب دولة القانون والتنمية ومعمر موسى وميخائيل بطرس وراشد تاج السر وحامد عبد الرحمن وحسن عثمان حسن وعماد الدين الحواتي وجمعة عريس وعادل يُوسُف السماني. وكانت السلطات اعتقلت المتهمين قبل 22 شهراً على خلفية اتهامهم بالتخطيط لتنفيذ تفجيرات واغتيالات وإسقاط الحكومة الانتقالية.
وقالت المحكمة في حيثيات قرارها أن هيئة الاتهام لم تقدم بيناتٍ كافيةٍ في مواجهة المتهمومين. وثبت للمحكمة أن الإقرار القضائي للمتهوم الخامس عماد الدين الحواتي، والذي استند عليه الاتهام كبينةٍ، أنه تم تحت الترغيب والترهيب، وأمرت المحكمة بإطلاق سراح المتهمين فورا ما لم يكونوا مطلوبين على ذمة بلاغات أخرى.
لم يكن الحُكم مستغرباً لأي شخصٍ ، تابع مجريات هذه القضية، والإنكار التام لعماد الدين الحواتي لإقراره القضائي الذي كال فيه الاتهامات جُزافاً، وأورد وقائع مفبركة! كما أن الذي تابع جِلسة المحكمة التي عُقدت يوم الأحد الماضي، يكاد يجزم بحكم البراءة قبل النطق به، أضف إلى ذلك حرص القاضي على استجواب جميع المتهومين في تلكم الجلسة الطويلة، وكذلك حرصه على تحديد موعدٍ قريبٍ لجلسة النطق بالحُكم، وإيداعه للمتهومين المُفرج عنهم بالضمان، السجن إلى حين النطق بالحُكم! كل هذه المؤشرات تكاد تنطق ببراءة المتهومين قبل النطق بها من قبل القاضي أمس الذي أحسبه نزل قول الله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”، التي كانت تتصدر قاعة المحكمة.
أكبر الظن عندي، أن الكثيرين الذين حضروا جلسة النطق بالحُكم، لا سيما المحامين والصحافيين والإعلاميين، أشادوا بالحيثيات التي قدمها القاضي كديباجة لإصدار حُكمه في هذه القضية، بل بعضهم وأنا من بينهم أن يطبع هذه الحيثيات، لرصانتها وجزالتها، لتعميمها، توثيقاً وثقافةً.
فلا غروّ أن تعالت هتافات “الله أكبر ويحيا العدل”من حناجر الأهلين والأصدقاء والحاضرين -ذكراناً وإناثاً-!فالعدل هو خلاف الجور، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو مِن: (عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادل). والعدالة في الإسلام هي إعطاء الحق لأهله وافيًا غير منقوص في قليل أو كثير، وعدم نقصانه أو زيادته على حساب الغير. وهي أيضًا تحقيق التوازن بين طرفين أو أكثر. ويعتبر العدل من أهم المفاهيم الأخلاقية والسياسية، ويعود أصل كلمة العدل إلى كلمة لاتينية تعني الحق أو القانون، ويعتبر الفلاسفة طبيعة العدالة فضيلة أخلاقية للشخصية، وفضيلة مطلوبة في المجتمع السياسي، بالنظر إلى كيفية تطبيقها على صنع القرار الأخلاقي والاجتماعي.
وقد وصف الأخ البروفسور إبراهيم غندور يوم صدور براءته وصحبه، أنه يومٌ تاريخيٌ في مجرى العدالة في البلاد، موضحاً أنهم عندما كانوا يطالبون بإحالتهم إلى المحكمة، كانوا يثقون في القضاء وعدالته، على الرغم من أن بعضهم أراد تسييس القضاء! وفي رأيي الخاص، أن القضاء السوداني مشهودٌ له بالنزاهة والعدالة، وحجاجي في ذلكم الأحكام القضائية التي تترى، ببراءة المتهومين ظلماً وكيداً، وإعادة المفصولين ظلماً وحقداً.
أخلص إلى أن إزالة الظلم، هي البداية الحقيقية للتصالح الوطني، فالفاسد أو المجرم في أي عهدٍ كان يُقدم إلى القضاء، فمن ثبت جُرمه يُحاكم، ومن تأكدت براءته يُطلق سراحه، ليعمل الجميع من أجل الوطن والمواطن.
فمن هنا كان مشروع “نداء أهل السودان للتصالح الوطني” الذي يقوده الشيخ الجليل الطيب الجد ود بدر مع عددٍ من مشائخ الطرق الصوفية، وشرائح مجتمعية مختلفة داعمة لهذا المشروع الوطني الكبير الذي يدعو إلى مصالحة سياسية وطنية، لا تستثني أحداً من أجل الوطن والمواطن. كما تدعو إلى الإسراع بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسين الذين مكثوا في وأن يُقدم من عليه تهمة إلى محاكمة عاجلة وعادلة، حتى لا يتضرر الأبرياء من الحبس، ويُسهم الجميع في معالجة قضايا الوطن.
سرني أن الأخ البروفسور إبراهيم غندور في أُولى تصريحاته الصحافية والإعلامية، نزع عن نفسه مرارات الحبس ظلماً وجوراً وبهتاناً، لأكثر من سنةٍ وبضع أشهرٍ، حيثُ دعا الأحزاب إلى التوحد والعمل لمصلحة البلاد. ودعا إلى أن يكون الشعب كله هو الحاضنة للحكومة الانتقالية، وليس أحزابٍ محددةٍ! فليُسارع الجميع إلى العمل من أجل السودان!
ولنستذكر في الصدد، قول الشاعر عمرو بن الأهتم المنقري:
لعَمرْكَ ما ضاقتْ بلاَدُ بأهْلِهَا
ولكنَّ أخْلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
ولنستذكر فوق هذا وذاك، قول الله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.