
ضياء الدين بلال
بصدق، فاجأتني عيناي بدمعتين وأنا
في طريقي إلى مباني الصحيفة، أستمع إلى الكاتب المصري الرفيع جمال الغيطاني وهو يتحدث عن الراحل الطيب صالح. المصريون دومًا يجيدون التعبير عن مشاعرهم، سلبًا وإيجابًا، تجاه الأحياء والأموات.
تحدث الغيطاني بحب شفيف ومعرفة عميقة بالروائي ورواياته، قائلاً إنه تعرف على السودان، ذلك البلد المتداخل مع مصر تاريخيًا، لا عبر الزيارات، بل من خلال عوالم الطيب صالح القصصية.
لعل أفضل وصف للراحل الطيب صالح ما قاله الدكتور عبد الله علي إبراهيم: “الطيب، رجل بلا مزاعم”.
أما الغيطاني، فقد وصفه بأنه درويش عظيم، تسكنه أرواح التصوف. يصل إلى أعظم الأفكار بأقرب الطرق. وكما هو كاتب بديع، فهو كذلك متحدث مجيد. لا تستطيع أذن أن تقاوم الإصغاء إليه، إذ تجري الحكمة على لسانه بسلاسة كما تجري مياه النيل.
الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد، كانت تجمعني به محبة خالية من الأدلجة، ومحادثات هاتفية تسرُّ شركات الاتصالات. ليلة رحيل الطيب صالح، اتصل بي قائلاً: “كتب علينا أن نستقبل مبدعينا في توابيت من خشب… علي المك، صلاح أحمد إبراهيم، وأخيرًا الطيب صالح. صلاح رثى علي المك، والطيب رثى صلاح… فمن يرثي الطيب؟”.
قالها نقد وفي صوته أحزان اليمين واليسار معًا.
ومرت الأيام، وعاد نقد إلى البلاد محمولاً على تابوت خشبي، مثل الذين كان يأسى عليهم.
مقولة الدكتور عبد الله علي إبراهيم بأن الطيب “رجل بلا مزاعم” تلخص جوهر شخصيته في وطن تتعالى فيه أصوات المزايدات، حيث يضيف كثيرون إلى سيرهم الذاتية من ماء الغش ما اتسع له المجال من ادعاءات وأوهام.
الدكتور محمد إبراهيم الشوش كان من
أكثر العارفين بالطيب صالح، وأجود المتحدثين عنه، بحكم المزاملة والمساكنة في بريطانيا. إلى درجة أن البعض ذهب سرًا إلى أن بعض شخصيات الطيب الروائية تستمد شيئًا من سيرة الشوش اللندنية.
في مباني مجلة “الخرطوم الجديدة”، التي يرأس تحريرها الصديق الطاهر حسن التوم، حكى الشوش ذكريات تلك الأيام، وألقى بملاحظة لفتت انتباهنا إلى أقصاه. قال إن أيامًا طوالًا جمعته في مسكن واحد بالطيب صالح في لندن، في الخمسينيات أو الستينيات، وكان يراقب تصرفاته بعين راصدة، تبحث عن التجاوزات والهفوات التي يوفرها مناخ لندن البارد لشباب ساخن الدماء.
كان الشوش مقتنعًا بأن الاستحالة البشرية تقتضي عدم وجود شخص بمثالية الشاب الطيب صالح، لذا ربما كان الرجل بارعًا في إخفاء أسراره. لكنه بعد سنوات طوال اكتشف أمرًا مذهلًا: الطيب صالح تخلص من نزواته عبر شخصياته الروائية، ونال مصطفى سعيد النصيب الأوفر، بينما احتفظ الطيب لحياته الواقعية بكل هذه المثالية والنقاء.
هذا الاكتشاف يناقض ما قاله الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد عن صديقه بدر شاكر السياب. ففي حديثه عن السياب في البرنامج الأروع “أيام لها إيقاع”، قال إن بدر كان في الواقع شخصًا قميئًا، كثير المثالب، لكنه حين يمسك القلم يصبح فارسًا للكلمة، لا يشق له غبار. واختصر عبد الرزاق صديقه في وصف محكم: “السياب شاعر بالغ الروعة، يعصر نفسه بين السطور، ولا يبقى منه إلا الوحل”.
رحل الطيب صالح قبل أن تتحقق أمنية محيميد، حين قال:
”وقتين طفح الكيل، مشيت لأصحاب الشأن، قلت ليهم خلاص.. مش عاوز.. رافض.. أدوني حقوقي، عاوز أروّح لي أهلي، دار جدي وأبوي.. أزرع وأحرث زي بقية خلق الله، أشرب الموية من القلة، وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وأرقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب، والقمر يلهلج زي صحن الفضة.. قلت ليهم عاوز أعود للماضي، أيام كان الناس ناس، والزمان زمان”.
إعادة نشر في ذكرى الرحيل
