خطواتُ الخوفِ ومسافاتُ الأمان(خواطر عن مأساة الفاشر بعد سقوطها في يد مليشيا التمرد وحكومة “تأسيس” المدّعاة)

يحدث عند الأزمات الكبرى، وفي المحكّات العظيمة أن تُختبر قيم الشعوب وحدود قدرتها على الاحتمال والصمود، عندها تتجلى الحقائق عاريةً بلا رتوش. وقد كانت مأساة الفاشر، التي وقعت تحت قبضة المليشيا المتمردة وقوات الارتزاق، واحدةً من تلك اللحظات الفاصلة التي أسقطت الأقنعة، وعرَّت السرديات الزائفة، وأضاءت الطريق إلى جوهر الأزمة السودانية بعيدًا عن الضجيج المُضلِّل. فالفاشر لم تكن مجرد مدينة تسقط، بل كانت مرآةً للحقيقة، وميزانًا أخلاقيًا وسياسيًا وإنسانيًا، اختُبر عنده العقل الجمعي السوداني، وانكشف فيه الفرق بين الدولة والفوضى، بين الجيش والمليشيا، بين الأخلاق والجريمة، وبين الأمن والخوف.
ولأن الحروب ليست أصوات المدافع وضجيج السلاح وحده، بل ما يبقى بعد انطفائها من جراحٍ وأسئلة، فإن مأساة الفاشر والرحلة الطويلة التي قطعها أهلها بحثًا عن الأمان، تمثل في جوهرها شهادةً حيّة على أن السودان لا يزال يملك مناعةً وطنيةً عصيّةً على الكسر، مهما أفرطت قوى الظلام في البطش والتضليل.
قبل يومين، وفي إشارة عميقة لمعنى الأمن ومعيار الدولة، تناقلت منصات التواصل، وعلى رأسها منصة “إكس X”، تغريدةً للفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، القائدِ العام للجيش السوداني ورئيسِ مجلس السيادة، جاء فيها:
“لا أحد يستطيع العيش في مناطق تتواجد فيها مليشيا الـ دقلو الإرهابية”
مشيرًا بوضوح إلى فرار المواطنين من كل منطقة تطؤها أقدام تلك المليشيا.
وأضاف كذلك:
“المواطنون الذين تم تهجيرهم قسرًا من الفاشر وبارا والنهود لم يذهبوا إلى نيالا أو الفولة أو إلى أي منطقة تحت سيطرة المليشيا في مدن دارفور أو غرب كردفان، بل اختاروا السير آلاف الكيلومترات إلى مناطق تحت سيطرة الدولة والقوات الحكومية حيث يجدون الأمن ومقومات الحياة.”
ثم ختم بقوله:
“إن ذلك يؤكد أنه لا حياة مع هذه المليشيا المجرمة.”
كانت هذه التغريدة موفقة، تحمل ذكاءً في الإشارة، وعمقًا في الرسالة، وتستوجب قراءةً وتأملًا لا يقلان أهميةً عن الحدث نفسه؛ لأنها وضعت إصبعًا على الجرح، وكشفت بكلمات قليلة عن حقيقة الصراع، وأن الدولة ليست جغرافيا بل منظومة قيم، وأن الأمن ليس شعارًا بل سلوكَ من يحمل السلاح. وما أورده البرهان في تلك التغريدة لم يكن توصيفًا مجردًا، بل كان خلاصةً لما نراه ماثلًا في السلوك الجمعي للمواطنين.
اتخذ أهل الفاشر — من قبائل الزرقة والعرب على حدٍّ سواء — خطواتهم مسرعين؛ خطواتِ الفزع لقطع مسافات النجاة، يجرّون خلفهم ركام الخوف، فارّين من الموت والجوع والتعذيب والسحل والاغتصاب، يهربون من كل فظاعة وامتهان لإنسانيتهم. لم يكن الهروب مجرد انتقالٍ جغرافي، بل كان عبورًا من عالمٍ ينهشه الرعب إلى أفقٍ يبحث عن ظلّ حياة، عن قيمة كرامة، عن أمنٍ يمنحه لهم قلبٌ مطمئن وحدسٌ صادق.
كانت الوجهة الطبيعية، من حيث المنطق الجغرافي، أن يتجهوا جنوبًا إلى نيالا، عاصمةِ الوهم وموئلِ الغدر والخيبة ووكرِها، ومأوى عصابة “تأسيس” التي تتوهم دولةً لا وجود لها إلا في خيال من اتخذ من الخراب برنامجًا للحكم. فالمسافة من الفاشر إلى نيالا لا تتجاوز 186 كيلومترًا؛ لكنهم اختاروا الطريق الأطولَ والأبعدَ والأشقّ نحو مدينة الدبّة في شمال البلاد، عبر مسافةٍ تناهز 828 كيلومترًا.
اختاروا الطريق الأطول لأن المسافة، رغم طولها ومشقّتها، كانت مسيرةً للأمل. اختاروها لأن حدس النجاة قادهم إلى الدولة لا إلى الدويلة، إلى الجيش لا إلى العصابة، إلى الأخلاق لا إلى السقوط. لقد رأوا ما يكفي من الفظائع ليوقنوا أن النجاة ليست في القرب الجغرافي، بل في القرب من منظومة قيم تحفظ الروح قبل الجسد. وما جرى في الفاشر لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل شكّل انهيارًا أخلاقيًا أمام آلةٍ وحشية لا تعترف بإنسان ولا بمواثيق.
وفي الدبّة تكسّرت سردية العنصرية، وانهارت أسطورة “دولة 56“. لقد فضحت خطواتُ أهل الفاشر، من الخوف إلى الأمان، زيفَ الروايات التي ظلّ المتآمرون يروّجون لها عن “ظلم الشمال” و“عنصرية الشريط النيلي”، وعن “دولة 56“ التي أُريد لها أن تكون شماعةً لكل خيانة، وذريعةً لكل مشروع تقسيم وتمزيق.
لقد هزمت هذه الخطوات، وبقوة الحقيقة البسيطة، كلَّ دعاوى التهميش المصطنعة، وكلَّ شعارات “جذور المشكلة” التي استخدمها الفاعل الحقيقي — الإقليمي والدولي — كمطرقة لتحريك الأذناب والوكلاء المحليين لإعادة صياغة السودان على مقاس الفوضى والخراب.
الدبّة وأهلها كسروا أكذوبة الاستعلاء العنصري للشمال. الدبّة وأهلها هدموا العمود الفقري لروايات التضليل عن الشمال وأهله وقادته ورموزه. لقد قدّموا، دون شعارات ولا منابر، أقوى درسٍ في الوطنية السودانية؛ حين فتحوا بيوتهم، وأطعموهم من جوعٍ، وآمنوهم من خوف، واحتضنوا الفارين من الموت كأنهم أهلهم، وكأن الدم الواحد سبق التاريخ والجغرافيا.
بهذا الفعل الجليل، فضحوا أكاذيب العملاء والمرتزقة والوكلاء الذين جعلوا من دماء البسطاء وسيلةً للوصول إلى سلطةٍ زائفة، ومن أشلاء المساكين طريقًا إلى المال المحرّم. كانت الدبّة رتقًا عمليًا للنسيج الاجتماعي، وترميمًا حيًا للجرح السوداني، وتجسيدًا حقيقيًا لتكافل الشعب حين يختبره الألم. إن اختيار الدبّة، بكلِّ بعدها الجغرافي، كان أشبهَ باستفتاءٍ شعبيٍّ حيٍّ على معنى الدولة وتماسكها، ومكانةِ القوات النظامية عند شعوبها.
ما وراء المشهد، ولأن الدولة قيمة قبل أن تكون جغرافيا، فإن الرحلة الطويلة التي قطعها أهل الفاشر ليست مجرد حدث إنساني، بل بيانٌ سياسي واجتماعي وأخلاقي.
إنها تقول بوضوح: إن الدولة ليست في اللافتات، بل في الضمير. وإن الأمن ليس في تعداد البنادق، بل في طبيعة من يحملها. وإن الجيش السوداني — بما عُرف عنه من أخلاقٍ وانضباط — لا يزال هو العنوان الأوضح لوحدة السودان وبقائه. وإن المليشيا، مهما رفعت شعارات، لن تستطيع أن تمنح إنسانًا واحدًا شعورًا بالأمان.
كما تكشف هذه الواقعة أن الصراع في السودان ليس بين “هامش ومركز”، ولا بين “غرب وشمال”، بل بين مشروع دولة ومشروع فوضى؛ بين من يريد للسودان أن يعيش، ومن يريد أن يتقاسم الخراب مع رعاته الإقليميين.
مأساة الفاشر لم تكن نهاية فصل، بل بدايةَ وعي.
والخطوات التي خطاها أهلها عبر الجبال والوديان والفراغ الموحش ليست مجرد رحلة فرار، بل شهادةً خالدةً على أن السوداني يعرف طريقه إلى الدولة، حتى إن ضلّت به الجغرافيا. لم يكن الهاربون يبحثون عن طعام أو مأوى فحسب، بل عن قيمة الأمن التي لا يمنحها إلا صاحبُ ضمير.
وهكذا، حين اختاروا الدبّة، كانوا في الحقيقة يختارون السودان.
يختارون الدولة.
يختارون الحياة.
كانوا يختارون الحق و يلفظون الباطل
لقد أثبتت الفاشر، بدموع أهلها وخطواتهم، أن السودان لا يزال أقوى من السرديات الزائفة، وأن وحدته ليست وهمًا، وأن أرضه — مهما تمزقت — تظل قادرةً على أن تجمع أبناءها حين يشتد الخطب. وستظل الفاشر، بكل آلامها وجراحها، شاهدًا على أن مسافات الأمان تبدأ من خطوةٍ واحدة… خطوةٍ تتجه نحو الدولة، مهما بعدت المسافات.
الجمعة 14 نوفمبر 2025م




3 facts about russia Chris O. The Ephesus tour was excellent — very well organized and not rushed at all. https://www.scamadviser.com/check-website/travelshopbooking.com