الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

حكاياتي مع بيت البرامج (٤)

مضاد الفيروسات… حين اشتعل الحلم في قلب شاب يافع

د. محمد عبدالرحيم يسن



لا تزال ذاكرة بيت البرامج عامرة بتلك الوجوه الشابة التي دخلت ساحته في نهاية التسعينيات وهي تحمل أحلاما أكبر من أعمارها.
كان من بينهم شاب نحيل، هادئ، يدخل بخطوات واثقة ثم ينساب إلى مكتبه دون ضجيج… محمد الشمباتي.
جاءنا وهو في بداية عقده الثاني، موهبته لم تكن تشبه عمره، بل تشبه زمنا أكثر نضجا اتسم بالشغف والمعرفة والمثابرة.
بدأت شرارة الفكرة عنده باكرا، قبل أن يمتلك جهاز حاسوب مكتبي، يستخدم جهاز منزلي بسيط، لكنه يملك ما هو أثمن “خيالا وفضولا لا يهدأ”. وحين حصل لاحقا على جهاز الحاسوب المكتبي، بدأ في جمع فيروسات ذلك الزمن، فيروسا بعد آخر، يدرسها بلا مرجع، ويختبر سلوكها بلا دليل،كانت تلك الفترة قبل دخول الإنترنت إلى السودان، حيث المعرفة تقتنص بجهد فردي خالص.
في تلك السنوات انتشرت فئتان من الفيروسات: فيروسات الملفات التنفيذية، وفيروسات بدء التشغيل التي كانت تصيب الأجهزة بسبب قرص مرن منسي داخل سواقة تشغيل الاقراص المرنة، فيسيطر الفيروس على الجهاز قبل أن يبدأ نظام التشغيل نفسه، ولشدة انتشارها وسرعتها، أصبحت دراستها تحديا، وبابا لا مناص من ولوجه.
بعد سنوات من الفهم المتراكم لطريقة عمل الفيروسات، تطورت عنده فكرة جريئة: لماذا لا نصنع مضاد فيروس يمتلك حرية انتشار الفيروس نفسه… دون أضراره؟ كانت مضادات الفيروسات التجارية مقيدة بالملكية، بينما كان الفيروس “حرا” في الحركة والنسخ. هنا جاءت اللحظة الفارقة… حين وجد ضالته في فيروس Tanpro 425، فحلله، ونزع وظائفه الضارة، ثم أضاف إليه قدرات فحص أقراص بدء التشغيل، ووضع له اسما مبتكرا ، “مضاد متنقل” MAV
Mobile Antivirus
فكرة سبقت زمنها.
في وقت لم تكن فيه شبكات،
الواي فاي أو البلوتوث التي نعرفها اليوم موجودة، نجح الشمباتي في مشاركة ملف بين جهازين عبر موجات الراديو قصيرة المدى FM، إنجاز يكفي وحده ليكون مشروعا علميا متكاملا.
إن ما كان يحمله الشمباتي من معرفة حول الفيروسات بالنسبة لبيت البرامج، كان رأس مال ضخما، وكان فضوله غير العادي مصدر طاقة لكل من حوله. واستفاد من تلك المعرفة في تطوير نظام حماية لبرامج الشركة، في زمن كانت فيه حماية البرمجيات من النسخ غير المشروع أكبر التحديات في غياب التشريعات. ابتكر نظام حماية يمكن إضافته للبرنامج بعد اكتماله، دون التقيد بلغة برمجة محددة أو أدوات تطوير معينة، من غير أضرار بالبرامج والانظمة الموجودة في الجهاز. وكان الهدف تحقيق وظيفة واحدة، “التأكد من الترخيص”… ولا شيء غيره.
وحدث مرة أن فشل نظام الحماية عند دمجه مع بعض البرامج في الشركة، وبعد تحليل المشكلة، اكتشف الشمباتي أن أجهزة الشركة نفسها مصابة بفيروس جديد. قام بعزله، وتحليله، وطور له مضادا — تم تسميته لاحقا Win32.Wired. أرسل المضاد إلى مجلة PC Magazine المتخصصة في اخبار الحاسوب حينها، فنشرت المجلة عنه مقالا ووزعته مع القرص المدمج المرافق. وبعد فترة قصيرة بدأت منتديات المبرمجين حول العالم تتحدث عنه، مؤكدين أن مضادات عالمية معروفة وشهيرة فشلت في كشف الفيروس… بينما نجح مضاد الشمباتي المتواضع الصنع.
واصل الشمباتي أبحاثه في أمن المعلومات بهدف اكتشاف الفيروسات دون الحاجة إلى قاعدة تواقيع ضخمة، بعد أن أصبحت الطريقة التقليدية غير مجدية بسبب العدد الهائل للفيروسات الجديدة يوميا. حقق نتائج مبشرة، إلا ان انتقاله للعمل في الخليج عام 2005 أوقف المشروع مؤقتا، وظل الحلم معه… يعود إليه، حتى بدأ مؤخرا في إحيائه من جديد.
ومع ظهور تقنية سلسلة الكتل الـ Blockchain، دمج الشمباتي خبرته في أمن المعلومات مع هذه التقنية الجديدة ليبتكر نظاما لإدارة تراخيص البرامج، يتيح حماية حقوق المنتج ويمنح المستخدم حرية نقل الترخيص كما ينقل أي سلعة، فكرة غير مسبوقة في عالم البرمجيات الذي ظل لسنوات يقيد المستخدم الأول.
هذه ليست مجرد قصة مهندس…
هي قصة عقل سوداني شاب اشتعل بالحلم في زمن كانت فيه المعرفة نادرة، والإمكانيات محدودة، والإنترنت غائبا. إلا أن الإصرار كان حاضرا… ومشتعلا، ووجد الحاضنة المناسبة التي مكنته من الابتكار بأدوات بسيطة.
محمد الشمباتي واحد من تلك الأسماء التي صنعت في بيت البرامج قصصا تستحق التوثيق…
ولعل أجمل ما ميز بيت البرامج انه كان بيتا حقيقيا لكل من وطئت قدماه عتبته. كنت أعيش فيه بروح الأخ الأكبر، بل بروح الاب أحيانا ، اراقب خطواتهم وهم يشقون طرقهم في الحياة المهنية ، ثم اتابع مسيرتهم اليوم ، في مواقعهم المختلفة وقد أصبحوا رموزا في مجالاتهم … فاشعر بفخر لا يقاس.
وفي آفاق رقمية، سنواصل سرد تلك الحكايات التي صنعت جزءا من تاريخ التقنية في السودان والعالم العربي.
٢٢ نوفمبر ٢٠٢٥م.

اترك رد

error: Content is protected !!