
1
السودان اليوم لا يواجه مليشيا تمردت ، بل عدوانًا رسميًا عليه من دولة الإمارات بشهادة العالم. ماذا حصدت دولة الإمارات من عدوانها على السودان؟ عشرات المليارات أنفقتها في تسليح المليشيات وتشوينها وجلب المرتزقة من أصقاع العالم لمساعدتها وخوض الحرب تحت راياتها وتشغيل مطاراتها وطائراتها وإقامة معسكرات التدريب والقواعد العسكرية في أم جرس والكفرة وجنوب السودان وأوغندا وبوصاصو في الصومال، إضافة إلى الصرف بالمليارات على السياسيين المرتزقة في المنظمات الإفريقية، بل والرؤساء الأفارقة، إضافة إلى الصرف على جيوش الإعلاميين الرخيصين في القنوات والسوشيال ميديا، إضافة إلى شغل الدبلوماسية الإماراتية بموضوع مقلق ومخجل، وهو أن دولة السياحة والتجارة تحولت إلى دولة تمول القتل والإبادة الجماعية..صورة مشوهة تلك التي رسمتها الإمارات لنفسها في ذهن العالم، رغم أنها تنكر، ولكن (إنكارك ما بفيدك، العملتو كان بإيدك وقروشك).
2
كل ذلك وأكثر فعلته الإمارات.. نعم، ولكن ماذا كسبت حتى الآن؟ لو استبعدنا جوقة المرتزقة من عملائها المستأجرين في صمود، فإنها كسبت أول ما كسبت عداء الشعب السوداني، الذي كان يحب الإمارات ولا يزال يحب شعبها المغلوب على أمره، ويكره سياسات قادتها وتدخلهم في شؤونه، الشعب الذي لم يبخل بشيء على الإمارات ماضيًا وحاضرًا. إذا كان الطارئون على التاريخ لا يذكرون الماضي لأنهم لا يعرفونه ولم يعايشونه حين كان السودانيون يرسون مداميك دولة مجهولة في عمق الصحراء، ولا يظنون أن يومًا ما في المستقبل إن قادة نفس تلك الدولة سيتولون كِبَر هدم دولتهم وتفكيكها، سبحان الله. ذلك تاريخ لا يعرفونه أو لا يريدون أن يتذكروه، ولكن ذات قادة اليوم حين ضاقت بهم الأرض بما رحبت وهبت رياح عاصفة الصحراء، لم يجدوا من يجود بروحه لأجل تثبيت عروش الملوك والأمراء والرؤساء التي كانت في عين العاصفة يومئذ إلا السودانيين؛ إذ وقف الجميع يتفرجون، بل لاذوا بالصمت. وحده السودان، من بين عشرات الدول الإفريقية والعربية، من سارعت جيوشه لتحمي العروش. دي برضو نسوها.
3
كيف تكسب أعداء شعب بنى دولتك ووهب دمه رخيصًا وقاتل معك؟ كيف يمكن أن تبيع شعبًا كهذا بمرتزقة؟ ولأجل ماذا؟ لأجل الثروة والموارد؟ خزائن الطارئين تفيض بأنعم الله ومن تحت أقدامهم، ولكنهم لا يشكرون!! لأجل نفوذ وحلم إمبراطوري.. ذكرى الصديق د. محمد زين قبل أيام بنموذج دولة إسبرطة (القرن السابع قبل الميلاد/ باليونان) التي كانت تبدو في أوج قوتها، شبيهة بدولٍ صغيرة تتصرف كقوة كبرى، وتبني نفوذها عبر المرتزقة وتمويل الحروب والسيطرة على طرق التجارة والموارد ولكنها انهارت ، قصتها تحمل درسًا سياسيًا لا يشيخ — درسًا عن نهاية مؤكدة لكل قوة تبني نفوذها على الطمع والخوف والسلاح بدل الشرعية والعلاقات المتوازنة.
4
كسبت الإمارات اليوم — جراء تحالفها مع المجرمين مرتكبي الإبادة — عداء الرأي العام العالمي. لم تبقَ في الكون صحيفة مهنية نزيهة إلا وأدانت أفعالها وتمويلها لمليشيا آل دقلو. خرجت الشعوب في أقطار الأرض تدين جرائم المليشيا ومموليها. ضجت البرلمانات بالإدانات لسياساتها التدخلية الهادفة لتقسيم وتفتيت الدول، وهناك أكثر من نموذج (ليبيا/ اليمن/ الصومال). بعثاتها الدبلوماسية محاصرة بالمظاهرات التي اجتاحت العالم من أقصاه إلى أقصاه، حتى مواطنوها أصبحوا يتنكرون لهويتهم بالخارج ويتخفون من الناس خجلًا وخوفًا من ردات أفعال ضحايا قادتهم.
5
في الرياضة شهدت الاستادات والمدرجات في أكثر من ملعب هتافات معادية لسياسات الإمارات، وغرد الفنانون والمشاهير ولاعبو كرة القدم تضامنًا مع شعب السودان والضحايا في الفاشر. باختصار، صارت الإمارات دولة منبوذة شعبيًا في الأوساط العالمية، ومدانة في الأوساط الرسمية، وشاهت صورتها في الصحافة العالمية ومراكز الأبحاث والدراسات كونها ترعى مليشيا إرهابية مجرمة تقتل وتبيد الناس على الهوية. أي صورة قبيحة صنعتها الإمارات لنفسها؟ في كل مدن الزجاج التي شيدتها لم تفكر الإمارات يومًا في النظر إلى صورتها؛ ليتها تفعل الآن.!!
6
وأخيرًا، بالأمس طارت الأخبار بأنباء تدنى محتمل في اسواق دبي وأبوظبي المالية . في تقرير حديث بعنوان (العبء السياسي الثقيل لقضية الإبادة الجماعية في السودان وتأثيره على ثقة المستثمرين) قال اسعد رجب الخبير المالى أمس : (لطالما اعتُبرت أسواق دبي وأبوظبي المالية ركائز صلبة للقوة الاقتصادية في المنطقة. لكنها اليوم تقف عند مفترق طرق حرج، لا تحدده فقط اتجاهات أسعار الفائدة العالمية أو تحركات أسعار النفط، بل قوة أكثر تعقيدًا وتقلبًا : تزايد الضغوط الدولية والاتهامات المتعلقة بالدور الذي تلعبه دولة الإمارات العربية المتحدة في الصراع الدائر في السودان وجرائم الإبادة الجماعية، خصوصًا في دارفور. ما كان في السابق مقتصرًا على تقارير إعلامية، تصاعد اليوم إلى مواجهة قانونية ودبلوماسية دولية كاملة، تشمل وزارة الخارجية الأميركية ومحكمة العدل الدولية وشبكات ضغط عالمية قوية. ويحمل هذا المشهد المتغير تداعيات لا يمكن إنكارها على ثقة المستثمرين وتدفقات رؤوس الأموال — تداعيات لا يستطيع أي مستثمر جاد تجاهلها).انتهى نص اسعد.. وما اشقى الامارات بتلك الاشارات.
7
هكذا لدماء الضحايا في الفاشر وغيرها من بقاع السودان لعنة خاصة جعلت طوفان الدماء يحاصر كل شيء في دولة الإمارات وخارجها، من السياسة والرياضة إلى الفن، مشوهًا صورتها التي كانت زاهية. ووصلت الآن اللعنة لأسواق المال والاستثمار، فاهتزت كل العروش التي شيدت عليها الإمارات، وسقطت كل التيجان من على رؤوسها، ومادت الأرض من تحت قدميها، وهي لا تعرف ماذا تفعل: أَتخوض في بحر الدماء إلى ما لا نهاية، حيث لا نصر يلوح في الأفق، أم تترك المليشيا تغرق وحدها وينكشف ظهرها وتوحشها للعالم بلا غطاء؟ هم في ضلالة اليوم يعمهون.التاريخ لا يحابي دولة تسير عكس سننه، ولا يمنح القوة لمن يجعلون النار وسيلتهم والدم قضيتهم. فكما سقطت قوى أعظم من الإمارات حين بنت نفوذها على المرتزقة والمال والسلاح، ستجد أبوظبي نفسها أمام لحظة الحقيقة؛ لحظة لا ينفع فيها المال ولا القواعد العسكرية ولا الحملات الإعلامية. لحظة يُفتح فيها الدفتر القديم ويُسأل فيه كل ظالم عمّا اقترفت يداه. فالسودان بلدٌ صبور، لكنه لا ينسى، والتاريخ لا ينسى، ولكنهم في ضلالة يعمهون.. ولا تظنن أن الله غافل عما يفعل الظالمون.




