الشيخ الزين محمد احمد
إسمٌ أنيس ..
فما أن يلامس سمعك ،
حتى ترتسم صورته أمامك وهو
قائم ( بالقرآن ) ،
فتغشاك راحة منه ،
و تغمرك محبة له ..
و هذا ما يسبغه عليك ( القرآن ) ،
فبقدر اقترابك منه ،
يكون صلاح حالك ،
و سكينة نفسك ،
و النور الذي يسعى بين يديك ،
و إقبال الناس عليك ..
و الذي يحمل قدراً من ( القرآن )
بحق و قوة ، و صدق ،
يأتيك من تلقائه ما يريحك ،
فما بالك بمن يحمل كل ( القرآن ) ..
ليس بالأمر السهل أن تحفظ
عن ظهر قلب ( القرآن ) ..
و من الصعوبة بمكان أن تُبقي
على حفظك ( للقرآن ) ..
و الأصعب أن تتخلق ( بالقرآن ) ..
و بكل تأكيد ..
هنالك من يُيَّسِر الله لهم ذلك
و يوفقهم إليه ،
و هم درجات ،
بعضم فوق بعض ،
يسعى نورهم بينهم ،
و يستضيىء به من هم دونهم ..
في كل ( رمضان ) ،
أقطع أن كثيرين كان يسعدهم ،
غاية السعادة ،
ذلك الاصطفاف الخاشع ،
خلف شيخ ( الزين ) بمسجد
( سيدة سنهوري ) ،
و هو يتلو ( القرآن ) بصوت ندي
و مليحٍ و منغم ..
و كل أولئك الذين كانوا يتقاطرون
من كل ناحية ،
و الذين يتابعون من على البعد ، يفتقدون في هذا الشهر ،
تلاوة ( شيخ الزين ) ،
في صلاة ( العشاء ) ، و ( التراويح ) ،
و ( التهجد ) ،
بفعل أشرار أشقياء ،
أخرجوا الناس من بيوتهم ،
و منعوا مساجد الله أن يُذكر
فيها اسمه ،
و سعوا في خرابها ..
و الناس إذ يُعَظِّمون ( القرآن )
بتجويد تلاوته ، فإنهم يُقبلون
بوَجدٍ و شغف على من يُرَتل
( القرآن ) ترتيلا ..
قال تعالى :
( وَ رَتِّلِ القُرآنَ تَرْتِيلا ) ..
يعني ..
و بيِّن القرآن إذا قرأته تَبْيينا ،،
و ترسَّل فيه تَرَسُلاً ،،
و اجعل بعضه على أثر بعض ،
على تُؤَدة ..
و الترتيل في اصطلاح علماء
( التجويد ) معناه ..
أن يلفِظ الحروف كما ينبغي
من غير إسراع ،
فكلما أنهى حرفاً جاء بالذي
بعده مع الإتيان بالحرف كما
ينبغي الاتيان بحقه ..
و حملة ( القرآن ) ..
ما أكرمهم إلا كريم ،
و ما احتقرهم إلا حقير ..
فمن أغناه الله منهم و أغدق
عليه ، فذلك بفضل ( القرآن ) ،
و من عاش منهم فقيراً أو مسكيناً ،
فبذلك قضى ( الرحمن ) ..
و في كلٍ خير ..
لذا فإن حق حملة القرآن علينا ،
أن نغبطهم ،
و نُقَدِّمهم ،
و نجلهم ،
و نُحسن بهم الظن ،
إذا ما اتقوا الله فيما حفظوا ،
و ابتغوا به إليه الوسيلة ..
و شيخ ( الزين ) ، يعتقل عقلك
و فؤادك و هو يتلو القرآن ،
و يحمل إلى وجدانك صدى
( أصوات ) ، عَمَرت حياتَك ،
و أضاءت نواحيك ..
أصوات تتعاقب عليك كل
أيام عمرك ..
و ترافقك منذ الصغر إلى
يومك هذا ..
فلكل منا حيث نشأ ، ( قارئ )
و أكثر ،
تظل ( تلاوتهم ) تلازمه
طوال سني عمره ..
و لكل منا قرَّاء يَجِد في الاستماع
إليهم راحة عظيمة ،
و يهاجر إليهم ..
و هم عشرات ،
و مئات ،
و ألوف من الحفظة و القراء ،
الذين أضاؤوا بين ( السموات )
و أرض ( السودان ) بنور ( القرآن ) ..
فمن منا لم يمتلىء بصوت
الشيخ ( عوض عمر الإمام ) ..
و من منا لم لم يسكن لصوت
الشيخ ( صديق أحمد حمدون ) ..
و لكلٍ طريقته و حلاوته ..
الشيخ ( عوض عمر الإمام ) ،
في تلاوته قوة ، تحسهُ وهو
ممسك بك ،
يسرع ثم يبطئ ،
و يعلو و يهبط ،
و يقبض و يبسط ،
و أنت في نشوة و استغراق
وخشوع ..
و الشيخ ( صديق أحمد حمدون ) ،
يأتيك صوته في منتهى العذوبة
و السلاسة و الرقة ، فيحملك إلى الملكوت الأعلى قريراً هانئاً..
و أذكر هنا شيخنا ،
( الخليفة أحمد مجذوب الكتيابي ) ،
رحمه الله ، و الذي تعلقت كأشد
ما يكون التعلق بنداوة صوته
و طراوته و عذوبته ..
و كل من يقرأ كلامي هذا ،
سيذكر عدداً غير قليل من
( القرَّاء ) الذين يأنس إليهم
و يرتاح .. و نحن السودانيين ، آذاننا
و أفئدتنا ، كلِفة و مفطورة على
حب المُرَتلين ( القرآن ) ترتيلا ..
نتابعهم في الجهات الأربع ،
نتابعهم من خلال ( المذياع ) ،
و ( أشرطة الكاسيت ) ،
قبل أن تعم ( الشاشات ) ،
و يشتعل الكون ( إنترنتاً ) ..
و الأقرب إلى وجداننا ( مصر ) ..
فتجد من يستمع إلى الشيخ ( الحصري ) ،
وتجد آخرين الشيخ ( المنشاوي ) ،
و كثيرين الشيخ ( عبدالباسط عبدالصمد ) ..
و هم كُثُر ..
و اليوم ..
تشتد المتابعة لأئمة الحرمين
الشريفين ..
الشيخ ( عبدالرحمن السديس ) ،
و الشيخ ( سعود الشريم ) ،
و الشيخ ( سعد الغامدي ) ..
و هم كُثُر ..
و أنا ، أكرمني الله بالصلاة بمسجد
الرسول ﷺبالمدينة المنورة ،
لما يقارب الأربعة أعوام ،
خلف شيخ القراء
( علي عبدالرحمن الحذيفي ) ،
و رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً ،
فلا أزال أجد صدى تلاوته ،
يملأ عليَّ الآفاق ..
آفاق نفسي ،
و الآفاق من حولي ..
و إني لأسمعه و أحسه و أراه ..
( شيخ الزين ) إنسان بسيط ،
ودود ،
هين ..
تدعوه فيستجيب بسماحة ،
و تستقرئه تبركا و تذكيرا ،
فيتلو عليك ما تيسر ..
و إذا لقيته فإنه يُقبل عليك
بحرارة و مودة ..
مرة ترافقنا إلى دعوة أحد
الأصدقاء ،
كنت سعيداً بصحبته ..
و قبل أن ينفض السامر استجاب
لرجاء صديقنا صاحب الدار ،
بأن يتلو علينا ( سورة يوسف ) ..
و كحال كل من يقرأ هذه
السورة ، لم يتوقف إلا عند
خاتمتها ..
( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ..
نعم ..
فيها عبرة لأولي الألباب ..
إذ أنها السورة التي بدأت بالرؤيا ،
و انتهت بتحقيقها ،
و كأن الله يخبرنا أن الأحلام في متناولنا ،
و أن ننتظر اليسر بعد العسر ،
و العودة بعد الغياب ،
و الفرح بعد الحزن ،
و الفرج بعد اشتداد الكرب ،
و العلو والرفعة بعد الضعف ،
و أن لا نيأس و إن طال العهد
و انقطع ،
( اذهبوا فتحسسوا من
يوسف ) ..
و كيف أن الصراع بين الخير
و الشر محسوم في النهاية ..
محسومٌ لمعاني الخير ،
و محسومٌ لمقاصد الخير ،
و محسومٌ لصُنَّاع الخير ..
لا تطغيك اللحظة ،
و لا تُهِينك اللحظة ..
أنت في قمة ضعفك قد يُحْدِث
الله أمراً فتقوى و تشمخ ،
و أنت في أوج قوتك قد يُحْدِث
الله أمراً فتضعف و تتلاشى ..
سيدنا ( يوسف ) ، عليه السلام ..
و هو صغير ،
يرى في المنام أحد عشر كوكباً
و الشمس و القمر له ساجدين ،
و يقص رؤياه على أبيه فيأمره ،
( لا تقصص رؤياك على إخوتك )
ذلك أن الكيد قد يأتيك من أقرب
الناس إليك ..
في وقتها يبدو الأمر و كأنه ضرب
من الخيال الشاطح ..
و بعدها ..
الإخوان يغيظهم حب أبيهم
له من دونهم ،
و يتآمرون عليه ..
( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً
يَخْلُ لكم وجه أبيكم ) ،
إنها الأنانية في أبشع تجلياتها ،
و إنه الإجرام في أقبح صوره ،
و أقبح الإجرام الذي يرتكبه في
حقك شقيق أو صديق أو
رفيق طريق ..
و هو سلوك مركوز في البشر
منذ ابني آدم ..
( و طوَّعت له نفسُهُ قتل أخيه
فقتله فأصبح من الخاسرين ) ..
و ينَفِّذون جريمتهم النكراء بأن
جعلوه في غيابة الجب ،
و هو وضع يتلازم فيه الضعف
مع ظلمة القاع ، فيتضاءل أي
أمل في السلامة و النجاة ..
و يقدِّر الله أن يلتقطه عابرون
للطريق ،
ويبيعونه بثمن بخس ، دراهم
معدوادات ، مع زهد فيه ،
و عدم حرص عليه .. و ياترى ..
كيف لو علم يومها هؤلاء
الزاهدون فيه ما سيصير إليه ،
من رفعةٍ و علو شأن !!
و لولا ما يحجبه الله عنا ، لتغيرت
نظرتنا إلى كثيرين ، باعتبار
ما سيصيرون إليه ،
رفعةً ،
أو انحطاطاً ..
فلو كشف الله لنا المآلات ،
لرأينا أيَّ عُلُو ينتظر هذا الضئيل
الصغير ،
و أي هاوية سحيقه تنتظر
هذا المتغطرس الشرير ..
و ( عزيز مصر ) الذي اشتراه ،
يوصي امرأته بأن تكرمه و تحسن
معاملته ، لعله ينفعهم أو يتخذونه
ولدا ..
و تراوده التي هو في بيتها ،
بكل نزق ، و تهور ، و شبق ،
و اشتهاء ..
و هي من هيَّ ،
جمالاً و مكانة ..
و هو من هوَ ،
شباباً و وسامةً ..
و هذا نوع من الابتلاءات التي
التي يصفق لها (إبليس) و يرقص ،
فلا يصمد أمامها خلق كثير ..
و لكن ، هذا سيدنا ( يوسف ) ،
عليه السلام ..
( قال رب السجنُ أحبُّ إليَّ مما
يدعونني إليه ) ..
و مكث حبيساً في ( السجن ) سنينا ..
و من ( السجن ) ،
و بعد أن حصحص الحق ،
و تجلى ما آثره الله به من فضل ،
و علَّمَه من تأويل الأحاديث ،
ها هو يقوم على خزائن الأرض ،
( مكينٌ أمين ) ،
و ( حفيظٌ عليم ) ،
و يتبوأ من الأرض حيث يشاء ،
و أحد عشر كوكباً و الشمس
و القمر له ساجدين ..
لقد حاز كل أطراف التمكين ،
و التمَلُّك ، و الإجماع ، و السطوع
و السلطان المطلق ،
و هو في هذه العلياء ، لم يسعى
للثأر لنفسه ، و ترَفَعَ عن كل
مالحق به من ضرٍ و أذى و كيد ..
( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ..
و في سورة ( يوسف ) من الدروس
و العبر و العظات ، ما علِمنا منها
و ما لم نعلم ..
و هو شأن كل سورة ، و كل آية
و كل حرف ، من كلام الله عز
وجل ..
و القرآن يعطيك و يفتح عليك ،
من كنوزه و أسراره و فيوضاته ،
بقدر احساسك به ، و أنت تقرأه
و تستمع إليه ..
احساسك ،
أنه كلام الله إليك أنت ،
و أنت المخاطب به ..
يأمرك أنت ،
و ينهاك أنت ،
و يعلِّمُك أنت ،
و يقصص عليك القصص أنت ،
فإذا قرأت ( القرآن ) بهذا الاحساس
و اليقين ، نلت حظاً عظيماً ببلوغ
درجة ( الاحسان ) ..
قالوا ..
( إذا أردت أن يكلمك الله فعليك
بقراءة القرآن ،
و إذا أردت أن تكلم الله فعليك
بالدعاء ،
و إذا أردت أن تكلم الله و يكلمك
فعليك بالصلاة ) .. و عندما فرغ شيخ ( الزين ) ،
من تلاوة سورة ( يوسف ) ،
و عاد إلينا ،
و عُدنا إلى بعضنا ،
بدا و كأنه قد أفرغ قلوبنا من
كل ضيق و كدر ،
و غسل نفوسنا من كل هم
و حزن ..
و صِرنا ،
و مِلء ُجوانحنا ..
( و لا تيأسوا من رَّوْحِ الله إنه لا
ييأس من رّوْحِ الله إلا القومُ
الكافرون ) ..
و الحمدلله ..
٢٤ مارس ٢٠٢٤ ..