الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

جرائم حرب مليشيا الدعم السريع في السودان .. خطوات عملية نحو التوثيق

لم تعد المأساة السودانية في مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار. فالانتهاكات الوحشية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع – بدعم خارجي واضح من دول مثل الإمارات العربية المتحدة – ضد المدنيين في دارفور وكردفان والخرطوم، قد تجاوزت حدود الحرب التقليدية، لتدخل مباشرة في نطاق جرائم الحرب حسب القانون الدولي. هذه الانتهاكات تشمل القتل العمد، والاغتصاب الجماعي، وتدمير المستشفيات والمدارس والبنى التحتية الحيوية، دون أي مبرر عسكري.
ومع هول هذه الجرائم، يبرز سؤال أخلاقي ووطني ملح: كيف يمكن للسودانيين توثيق هذه الفظائع بطريقة منهجية تضمن عدم طمس الحقيقة أو نسيانها مع مرور الزمن؟ فالتوثيق ليس رفاهية، بل هو ضرورة لمحاسبة الجناة، بمن فيهم قادة المليشيا وداعميهم الإقليميين.

أولاً: الإطار القانوني الدولي:
تعرف اتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩ وبروتوكولاها الإضافيان لعام ١٩٧٧ جرائم الحرب كانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، مثل القتل العمد للمدنيين، والتعذيب، و النهب، واستهداف الممتلكات المدنية. وفي الحالة السودانية، تتقاطع هذه الجرائم مع الجرائم ضد الإنسانية، خاصة مع التقارير الدولية التي تتهم مليشيا الدعم السريع بارتكاب التطهير العرقي في دارفور.
وتؤكد القواعد الدولية أن المسؤولية فردية وجماعية في آن واحد، إذ لا تقتصر على المنفذين الميدانيين فقط، بل تمتد إلى الهرم القيادي الذي أصدر الأوامر أو سهّل تنفيذها، كما تشمل كل من قدم دعماً مادياً أو سياسياً لتلك الجرائم. وهي مسؤولية لا تسقط بالتقادم ولا تُلغى بالأوامر العسكرية أو المبررات السياسية.

ثانياً: دروس التاريخ:
من محكمة نورنبرج التي حاكمت قادة النازية، إلى محاكم يوغوسلافيا السابقة ورواندا في التسعينيات، يظل الدرس واضحًا: لا عدالة بدون توثيق مبكر ودقيق. ففي رواندا، أنقذت آلاف الشهادات التي جمعها الناجون الحقيقة من الزوال، وأسست لإدانة المسؤولين عن الإبادة.
وفي أفريقيا أيضا، برهنت تجارب سيراليون وجنوب أفريقيا على أن العدالة الانتقالية لا تزدهر إلا حين تُبنى على وثائق وشهادات ميدانية موثوقة. واليوم، يحتاج السودان إلى استلهام تلك التجارب لمواجهة مليشيا الدعم السريع، التي تعيد إنتاج الفظائع نفسها بدعم خارجي موثق في تقارير الأمم المتحدة.

ثالثاً: أدوات التوثيق الحديثة:
لم يعد التوثيق حكرًا على الجهات الرسمية أو المؤسسات الإعلامية الكبرى. فقد جعلت التكنولوجيا من الأفراد “شهودًا رقميين”، قادرين على جمع الأدلة عبر هواتفهم الذكية وتطبيقات تحفظ الصور والفيديوهات ببياناتها الزمنية والمكانية.
والقاعدة الأهم في هذا السياق أن الدقة أهم من الكثرة لأن الكيف أوفى من الكم. فالتاريخ لا يسجل الصوت الأعلى، بل يحفظ الدليل الأوضح. لذلك يجب تحديد التاريخ، والموقع الجغرافي بإحداثيات دقيقة، والجهة المنفذة بوضوح، مع توثيق الظروف المحيطة. ويمكن حفظ المواد في سحابات مشفّرة أو منصات آمنة متخصصة.

رابعاً: الطريق إلى التوثيق الوطني:
لكي لا تضيع الحقيقة وسط الدخان والدم، على كل فئة سودانية أن تؤدي دورها بوعي ومسؤولية، فالحكومة السودانية مطالَبة بتشكيل لجنة وطنية مستقلة تضم خبراء قانونيين وتقنيين، تعمل بمعايير توثيق دولية، وتتعاون مع المنظمات الأممية لجمع الأدلة حول الجرائم، بما في ذلك الدور الخارجي في تمويل المليشيا وتسليحها، كما يمكن النظر فى مرحلة لاحقة فى إقامة نصب تذكاري ومعرض دائم يؤصّل لصور حقيقية و أعمال فنية تعبر عن معاناة إنسان دارفور من جراء جرائم حرب مليشيا الدعم السريع.
أما المجتمع المحلي في المدن الآمنة فيمكنه المساهمة من خلال تدريب الكوادر والنشطاء على استخدام أدوات التوثيق الرقمي، عبر ورشات إلكترونية ومنصات مشفّرة تضمن سرية الشهود وسلامتهم.
و تستطيع المنظمات المدنية إنشاء قاعدة بيانات موحدة ومشفّرة، تحتوي على خرائط تفاعلية وشهادات مصوّرة وتقارير ميدانية وبقايا أسلحة وفوارغ ذخائر مستخدمة ضد المدنيين، لتكون نواة الملفات القانونية ضد قيادة الدعم السريع وحلفائها.
و علي وسائل الإعلام والناشطين التركيز على الصحافة الاستقصائية ونشر التحقيقات الموثقة بصور وأدلة ميدانية، بعيدًا عن الخطاب الدعائي أو المبالغات التي تضعف المصداقية.
كذلك، فإن السودانيين في الخارج يمتلكون فرصة ذهبية لتكوين شبكات دعم دولية لجمع الشهادات وتقديمها إلى الأمم المتحدة والمحاكم المختصة، والمساهمة في الضغط السياسي لوقف أي دعم خارجي للمليشيا.

خاتمة:
قد تُبطئ السياسة العدالة، لكن التوثيق الصادق يُعجّلها.
إن تسجيل جرائم مليشيا الدعم السريع – ومن يقف وراءها – ليس مجرد جهد إنساني، بل هو تحصين للذاكرة الوطنية و المؤسسية السودانية من النسيان، وإعلان بأن الدم لا يُمحى بالوقت ولا بالبيانات السياسية.
فالتاريخ لا يكتبه المنتصرون فحسب، بل من يملكون الدليل على ما جرى.
ومن لم يوثّق جراحه اليوم، سيستيقظ غدًا ليجد أن صرخته ذابت في الضجيج.
فلتكتب الحقيقة الآن، قبل أن يُعاد رسمها على هوى القتلة.

اترك رد

error: Content is protected !!