تقرير بعثة تقصي الحقائق المستقلة بشأن السودان (2023): قراءة نقدية في التوصيات والمآلات!؟

مقدمة:
في ظل تصاعد الحرب اكثر من عامين في السودان عقب اندلاع بواسطة قوات الدعم السريع المتمردة في أبريل 2023 وتطوراتها على المشهد الداخلي ، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف القرار رقم A/HRC/RES/54/2 بتاريخ 12 أكتوبر 2023، والقاضي بإنشاء بعثة مستقلة لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في السودان. وقد صدر التقرير النهائي للبعثة (A/HRC/57/23) في يوليو 2024، متضمنًا استنتاجات خطيرة حول وقوع انتهاكات قد ترقى إلى مستوى الجرائم الدولية، كما قدّم حزمة من التوصيات للدولة السودانية، وللأطراف المتحاربة، وللمجتمع الدولي. ورغم أهمية هذا التقرير من حيث توثيق الجرائم والانتهاكات، إلا أنه يثير عددًا من التساؤلات حول اتساقه مع القانون الدولي والواقع السياسي والإنساني في السودان من حيث الصدقية والدقة والمصادر ، لان السودان اعلن بداية رفضه لهذه البعثة ورفض التعامل معها. و البعد الآخر مدى إمكانية تفعيل توصياته على الأرض، خاصة في ظل واقع الحرب وتركتها المثقلة، والسياق الدولي الـ معقّد والتوازنات الإقليمية المضطربة.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة نقدية في مضامين هذا التقرير، من خلال تحليل توصياته الرئيسية، وتقييم قابليتها للتنفيذ، ومقارنتها بتجارب إقليمية مماثلة، وذلك في إطار بحث مدى نجاعة هذا النوع من الآليات الأممية في معالجة الأزمات المعقّدة، وما يكتنفها من تسييس.
أولًا: عرض لمضامين التوصيات الواردة في تقرير البعثة
توزعت التوصيات التي خلص إليها التقرير على عدة محاور، نورد أبرزها كما يلي:
1.الدعوة إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار، باعتباره المدخل الأساسي لحماية المدنيين ووقف الانتهاكات.
2.حظر تدفق السلاح إلى جميع الأطراف، وتوسيع نطاق قرارات مجلس الأمن بشأن حظر السلاح المفروض على دارفور ليشمل كامل السودان.
3.تفعيل مبدأ المساءلة من خلال توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل كامل أراضي السودان، والتوصية بإنشاء آلية قضائية دولية جديدة.
4.تمكين النساء والشباب وإشراكهم في عمليات بناء السلام وفقًا لقرار مجلس الأمن 1325 (2000).
5.الاعتراف بجرائم العنف الجنسي والتجنيد القسري للأطفال كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والدعوة إلى وقفها فورًا.
6.حماية المدنيين ومقدمي المساعدات الإنسانية، وضمان وصول الإغاثة دون عوائق.
7.دعم المجتمعات المحلية المضيفة للاجئين والنازحين، والإشادة باستجابتهم الإنسانية.
8.الدعوة إلى عملية عدالة انتقالية شاملة قائمة على الحوار الوطني والمشاورات المجتمعية.
ثانيًا: تحليل نقدي للتوصيات ومدى قابليتها للتنفيذ
1.غياب الإرادة السياسية والتعقيد البنيوي للحرب او (النزاع) كما يسمونه وهذا ملمح تسييسي.
إن تنفيذ معظم التوصيات الواردة في التقرير، وعلى رأسها وقف إطلاق النار، قعد به الفشل اللذي لازم مخرجان إعلان جده في مايو ٢٠٢٤م يرغم توفر الإرادة السياسية من قبل الحكومة وغيابها لدى التمرد بحكم عدم وجود آلية رقابة لتنفيذ الاتفاق على الارض لإنفاذ الهدن ال ٨ التي أعلنت ورصد الخروقات ، وغياب الثقة واستمرار الرهانات العسكرية من قبل التمرد لتحقيق نصر وفرض ارادة ميدانية عبر القتال..
2.توصيات بلا أدوات تنفيذية
رغم وضوح الطابع الإنساني لتوصيات البعثة، فإن التقرير لم يقترح آليات رقابة أو متابعة زمنية، كما أنه لم يضع إطارًا مؤسسيًا أو فنيًا لتنفيذ مقترحاته، ما يجعل كثيرًا منها أقرب إلى المناشدات الأخلاقية.
3.ضعف مقاربة العدالة الانتقالية في السياق السوداني
أوصى التقرير بإنشاء آلية قضائية مستقلة، بالتوازي مع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكنه لم يقدم تصورًا عمليًا يراعي حساسية السيادة الوطنية والشرعية التي تتركز اليها القوات المسلحة السودانية في حقها في مواجهة تمرد وعدوان مفتوح على البلاد به أطراف أجنبية ، ولا التحديات التي واجهت المحكمة في ملفات مشابهة (كليبيا وسوريا). 4.تجاهل الدور الإقليمي والدولي في تأجيج الحرب وعدم القدرة للإحاطة بانعكاساتها
أغفل التقرير الإشارة المباشرة إلى الجهات والدول التي تزود أطراف الحرب بالسلاح والدعم اللوجستي، رغم التقارير الحقوقية والإعلامية الدولية وناشطين وبعض البيانات لبرلمانيين ونواب بالكونغرس، وهو ما يشكل إخلالًا واضحًا بمبدأ الشمول في المساءلة، ويُضعف من مصداقية التوصيات.
ثالثًا: المقارنة مع تجارب إقليمية مماثلة
1.التجربة الليبية:
أنشأ مجلس حقوق الإنسان بعثة لتقصي الحقائق في ليبيا عام 2020. وقد وثقت البعثة انتهاكات مروعة، لكن تقاريرها لم تجد سبيلًا إلى التنفيذ نتيجة الانقسام السياسي وتعدد الحكومات، كما هو حال السودان التي تحاول مجموعة (تاسيس) والمجاميع الأخرى المتحالفة مع التمرد رسمها.
2.التجربة السورية:
في سوريا، كانت تقارير لجنة تقصي الحقائق دقيقة في التوثيق، لكنها اصطدمت بالفيتو الروسي – الصيني في مجلس الأمن، ما أعاق الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهذا السيناريو مرشح للتكرار في الحالة السودانية.
3.تجربة ميانمار:
رغم إصدار تقارير قوية توثق الإبادة الجماعية بحق أقلية الروهينغا، إلا أن المسار السياسي ظل راكدًا، ولم تُفعّل توصيات التحقيقات، بل زادت عزلة البلاد. والدرس المستفاد هو أن التوصيات دون أدوات ضغط متوازنة وفاعلة لا تحقق نتائج ولا توصل الي غاية .
رابعًا: توصيات بديلة ومقترحات عملية
بناءً على التحليل أعلاه، يمكن تقديم التوصيات التالية:
1.دمج توصيات التقرير ضمن مبادرة وطنية إقليمية أفريقية برعاية الاتحاد الأفريقي، تُعطي الأولوية لحماية المدنيين ووقف الحرب ومعاقبة من تسبب فيها.
2.تشكيل لجنة سودانية وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية، تتعاون مع جهات إقليمية او دولية، مع ضمان إشراك الضحايا.
3.إنشاء آلية مراقبة محايدة لتدفق السلاح إلى السودان، بإشراف دولي وإقليمي مشتركة ومعاقبة الدول والمنظومات التي تمد التمرد بالسلاح .
4.الاعتراف بالدور المركزي للمجتمع المدني السوداني ودعمه كمحرك أساسي للعدالة والانتقال الديمقراطي.
5. توسيع إطار المحاسبة ليشمل الجهات الخارجية المتورطة في تمويل أو تسليح التمرد، عبر آليات المقاطعة أو العقوبات.
بين يدي الدرة ٦٠ للمجلس
هنالك تقريرًا من خبراء الأمم المتحدة خلُص إلى أن المدنيين يُستهدفون عمدا من طرف (القوات المتنازعة) كما اسماها، مع ارتكاب انتهاكات واسعة (جرائم حرب، جرائم إنسانية، تدمير البُنى التحتية. من جهة أخرى، توجد لجنة خبراء زارت بورتسودان وعبّرت عن قلق بالغ من تدهور الأوضاع الحقوقية هناك.
وقد شاركت النائب العام السوداني، انتصار أحمد عبد العال، في جلسات الدورة الـ 60 لمجلس حقوق الإنسان التي تعقد حاليا بجنيف.
•و بصفتها رئيسة اللجنة الوطنية للتحقيق في جرائم وانتهاكات القانون الوطني والقانون الإنساني الدولي، استعرضت أمام رئيس المجلس أعمال اللجنة القضائية الوطنية، مشيرة إلى عدد القضايا المسجلة، المحالة إلى القضاء، والمحاكمة التي أنجزت منها.
•طالبت المجلس بإدانة دعم الإمارات لـ “قوات الدعم السريع” (RSF)، مؤكدة أنّ هناك أدلة على توريد أسلحة وتسليح وتجند مرتزقة من قبل جهات تتبع الإمارات لصالح الدعم السريع؛ ودعت إلى وقف هذا الدعم.
•كما طالبت بإنهاء ولاية بعثة التحقيق التابعة للأمم المتحدة (UN Fact-Finding Mission)، ووصفتها بأنها “مُسيّسة ومتّحيزة”. وأشارت إلى أنّ لدى السودان نظام قضائيٍ قادر على المحاسبة، معتبرة أن بعض الادعاءات التي تُروَّج لها منظمات غير حكومية بخصوص استخدام أسلحة كيميائية أو غيرها “لا أساس لها من الصحة.هذه المشاركة القوية لوفد السودان بجنيف تضع حدا لإحدى بوابات التدخل في الشأن الداخلي والتعقيدات المتشابكة مع الملفات الأخرى المتصلة بمجلس الامن والمحكمة النائية وغيرها من او الاصطياد والمحاصرة لما يجري بساحتنا ..
خاتمة
في النهاية وضح جليا ان من أعدوا تقرير بعثة تقصي الحقائق ارادو له ان يكون وثيقة بالغة الأهمية بفهمهم من حيث التوثيق الحقوقي والتوصيف القانوني لمشروع ممتد ، لكنه لا يخلو من بعد سياسي متحيز و يفتقر إلى خطة تنفيذية واضحة، ويتجاهل الحقائق التي خلفتها الحرب والمعطيات السياسية والجهوية المعقدة التي تحكم الأزمة السودانية والتماهي الخفي مع التمرد . وتظل القيمة الأساسية للتقرير في حفظ الذاكرة الحقوقية، وتمهيد الأرضية لنقاش إقليمي دولي أوسع حول العدالة والمساءلة، مع الأخذ في الاعتبار السيادة الوطنية . لكن تحقيق الأثر الحقيقي مرهون بإرادة وطنية وإقليمية ودولية متقاطعة، تعمل على إدانة ومعاقبة من اشعلوا هذه الحرب اللعين بآثارها الممتدة، وتمكين السودانيين من تقرير مصيرهم في سلام وعدالة من فكرهم وكسبهم وأرثهم وأعرافهم لا أن تفرض عليهم. ولا بأس بل الواجب الدولي في ظل واقع الحرب الذي يعيشه السودان من أن تقدم له المساعدات الفنية والتقنية لرفع القدرات والتدريب لبلوغ الغاية المنشودة في الارتقاء بالحق الإنساني رغم ما خلفه التمرد الجاني المعتدي من جريمة دولية برعاية أربابه .