ترامب والملف السوداني: هل تعود المبادرة السعودية-الأميركية إلى صدارة المشهد؟

منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب ملف السودان من مستشاريه وتولّيه إدارة الملف بنفسه، نتيجة جملة مستجدات. دخلت الأزمة السودانية مرحلة جديدة لا يمكن فصلها عن التحولات الجارية في واشنطن والرياض اضافة الي الميدان العسكري ، ولا عن طبيعة الحرب الإقليمية بالوكالة التي تسعي الي تمزّيق السودان منذ أكثر من عامين ونصف منذ أبريل ٢٠٢٣م.
هذا التطور — بما يحمله من دوافع وصراع داخل الإدارة الأميركية وضغوط داخلية — ومترتبات في مسار العملية السلمية، أثار سؤالًا جوهريًا:
هل يعزّز تدخل ترامب المباشر فرص إعادة إحياء المبادرة السعودية-الأميركية؟ أم أنّه مجرد تكتيك انتخابي سريع لن يغيّر طبيعة الميدان؟
المعطيات المتاحة تشير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية، تُنذر بمرحلة مختلفة تمامًا عمّا سبقها.
أولًا: قرار ترامب… نقل الملف من “الرتابة البيروقراطية” إلى “القرار الرئاسي”
إيقاف المستشارين لم يكن مجرد خطوة إدارية، بل كان إعلانًا بأن واشنطن، اكتشفت ما يحملها على هذا التغيير، وقررت رفع مستوى التعامل مع السودان من مستوى موظفي الصف الثاني إلى مكتب الرئيس مباشرة. خاصة من وحي حملات الإرباك التي احدثتها الرباعية وموقف القيادة السودانية منها ومن توجهات مبعوث ترامب مسعد المنحازة الي ابوظبي، وتصريحاته غير المتوازنة، وتردداته لمواقف الإمارات .
وهذا يعكس عدة دلالات:
1. فشل المقاربة القديمة التي اعتمدت على رؤية ضيقة اختزلت الأزمة في “نزاع داخلي”.
2. اتساع رقعة التدخلات الإقليمية وارتباطها بممرات الطاقة والبحر الأحمر وامن الاقليم وشرق افريقيا.
3. رغبة ترامب في تثبيت بصمته الشخصية، خاصة في الملفات التي تمنحه قدرة على الظهور كصاحب قرارات حاسمة والقيم على امهات الأزمات الثلاثة العالمية.
4. إعادة تقييم الدور الإماراتي الذي أصبح محورًا رئيسيًا في النقاش داخل المؤسسات الأميركية، وتوجهات أبوظبي الماضية في مشروعاتها ازاء هندسة أفريقيا لصالحها ، والتقاطعات الدولية الكبرى الأخرى.
هذا التحوّل بحد ذاته يعيد تدوير الزخم حول المبادرة السعودية-الأميركية، بوصفها المسار الوحيد الذي يحظى بشرعية مزدوجة:
شرعية إقليمية (قيادة السعودية) وغطاء دولي (واشنطن). تعززه شبكة امان دولية بثقل الامم المتحدة ودول نافذة في المنطقة .
ثانيًا: الانتقادات الديمقراطية لترامب… دافع إضافي لتفعيل دور واشنطن
الديمقراطيون يتهمون ترامب بأنه:
• يسيّس الملف لصالح حملته الانتخابية، ويتجاهل مطلوبات الحل
• يهمل الجانب الإنساني، والكارثة من ورائه ولا يتعمل معها كأزمة ملحة
• يفتقد لخطة سلام واضحة، ورؤية لتنفيذها
• ويتساهل مع تدخلات أطراف مثل الإمارات، ودول في الجوار السوداني تغذي الصراع وتدعم التمرد.
هذه الانتقادات، على الرغم من ظاهرها السلبي، تؤدي إلى نتيجة عكسية مهمة:
ترامب يحتاج لإظهار تحرك فعّال وسريع يُثبت أنه ليس منفعلًا ولا انتهازيًا، وأنه قادر على إيجاد مسار جاد لإنهاء الحرب.
والمسار الوحيد القائم والجاهز والمأمول نوعا ما — الذي يمكن البناء عليه دون تكلفة سياسية — هو المبادرة السعودية-الأميركية.في ظل قبول وترحيب القيادة السودان بها، وتجربة السودان معها عبر منبر جدة وما ترتب عنه.
أي نجاح نسبي لهذه المبادرة سيُعدّ إنجازًا مباشرًا يُسجّل باسمه، ويُحرج خصومه الديمقراطيين الذين فشلوا في إدارة الأزمة خلال السنوات الماضية. ويدفع بخطى الاستقرار في السودان والاقليم على حد سواء إذا ما تجاوزت واشنطن نهج التهديد والعقوبات والتصنيفات والعقوبات المالية، الي مبادرة ذات عناصر متوازنة.
ثالثًا: فرص نجاح المبادرة السعودية-الأميركية في ظل المعطيات الجديدة
يمكن القول إن تدخل ترامب المباشر يعزّز فرص إنجاح المبادرة في عدة اتجاهات مهمة:
- انضباط الرسالة الأميركية
حين تصبح واشنطن على قلب رجل واحد — أو رجل واحد فعليًا — تتقلّص حالة التشتت بين الخارجية والبيت الأبيض والكونغرس ومجموعات الضغط. هذا التوحّد يجعل الضغط على الأطراف الإقليمية أكثر فاعلية، خاصة تجاه الدول المتهمة بتغذية الحرب وتحييدها.. - رفع تكلفة التعطيل
ترامب، بخلاف إدارة بايدن، يميل إلى أسلوب “العصا الغليظة” مع الأطراف التي تناور.
حتى مجرد التهديد باتخاذ خطوات أحادية قد يدفع اللاعبين الإقليميين إلى إعادة حساباتهم.
والانخراط الموجب مع ضرورة وجود شبكة امان دولية تعزز هذا التوجه. - تطابق اللحظة مع أولويات السعودية
الرياض تحتاج إلى:
• إيقاف النزيف في البحر الأحمر،
• منع تمدّد النفوذ غير المحسوب،
• ومنع تحوّل السودان إلى ساحة صراع مفتوح من وراء الحرب بالوكالة.
تواجد ترامب في المشهد يعطي السعودية شريكًا أميركيًا قادرًا على الحسم، في لحظة إقليمية حساسة. - المبادرة نفسها قابلة لإعادة الإحياء
المبادرة لم تُدفن، بل تعطلت بسبب:
• التباين داخل الإدارة الأميركية،
• وتضارب النفوذ الإقليمي،
• وانهيار الثقة بين الطرفين السودانيين.
. خلفيات الرباعية وجلبة الإمارات
تدخل ترامب قد يقدّم “محرّكًا سياسيًا جديدًا” يعيد جمع الأطراف تحت مظلة جدة. - تقليص الدور الإماراتي في المرحلة الجديدة انتقادات ترامب الضمنية والمباشرة لبعض السلوكيات الإقليمية — بتأثير تقارير مؤسساتية — قد تحد من قدرة أي طرف على مواصلة دعم الحرب بلا سقف.وإذا حدث هذا، فإن المبادرة السعودية-الأميركية تصبح المسار الوحيد المتاح. خاصة على خلفية الرفض السوداني لاي تواجد للإمارات في اي مبادرة. الخلاصة: هل ينجح المسار السعودي-الأميركي؟ نعم… فرص النجاح ارتفعت مقارنة بالأشهر الماضية، ولكن بشرطين أساسيين:
- أن يستمر ترامب في الإمساك بالملف فعليًا لا رمزيًا، وفق رؤية ومقاربة جديدة تحدد الاطر الرئيسية والضمانات والحوافز والمدى الزمني .
- أن تنجح الرياض وواشنطن في فرض مظلة ضغط مشتركة على الأطراف الإقليمية قبل الفاعلين المحليين.
إنّ السودان اليوم أمام لحظة قد تعيد تشكيل ميزان القوى في الإقليم، تأخذ بالإدانات الدولية الواسعة لانتهاكات التمرد وضرورة المضي فيها حتى تصنيفه منظمة ارهابية.
وإذا أُعيد إحياء مبادرة جدة — برؤية أكثر صرامة — فإنها قد تمثل آخر فرصة سياسية قبل اتساع رقعة الحرب نحو مستويات أخطر لا قدر الله ، وبالتالي المطلوب توظيف هذه السانحة لجلب السلام العادل والامن ليعيد الأوضاع الي طبيعتها ويفرض الامن والاستقرار للبلاد وفق محددات القيادة السودانية المعلنة.
………………،
٣ ديسمبر ٢٠٢٥ م



