تحوّل في المزاج الدولي تجاه حرب السودان: منحنى الإدانة يتصاعد… ومشروعية الدولة تستعيد توازنها الدبلوماسي!

على خلفية التطورات الكارثية في الفاشر وولايات كردفان، وما أفرزته من مآسٍ إنسانية وتداعيات أمنية إقليمية، شهد المشهد السوداني خلال الأسبوع الجاري تحولًا لافتًا في الخطاب الدولي تجاه الحرب او الغزو الخارجي على البلاد.
فقد تزامنت زيارة وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الطوارئ (توم فليتشر، مع زيارة وزير الخارجية المصري إلى السودان، في وقت أصدرت فيه أكثر من 21 دولة أوروبية وكندا بيانًا مشتركًا حَمَل إدانة صريحة لمليشيا الدعم السريع المتمردة على خلفية هجماتها العنيفة ضد المدنيين، بالتوازي مع بيان مجموعة السبع (G7) الذي وصف الانتهاكات في الفاشر وشمال كردفان بأنها “ذات دوافع عرقية” من بينها الاغتصاب و”تشكل أكبر أزمة إنسانية في العالم”.
هذه التفاعلات المتزامنة تكشف أن الحرب في السودان لم تعد تُقرأ فقط في بعدها المحلي الاقليمي، بل تحولت إلى قضية أخلاقية وإنسانية وسياسية عالمية تتبلور حولها مواقف جديدة بدأت تضع حدًا لزمن الغموض والمساواة المصطنعة بين “الجيش النظامي ومليشيا الدعم السريع”. بينما يعيش السودان فصولًا دامية من الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، تشهد الساحة السياسية والإنسانية في الآونة الأخيرة تحوّلاً لافتًا في المواقف الدولية تجاه أطراف الصراع. فبعد أشهرٍ من التردد والغموض، بدأت مؤشرات واضحة تبرز على تبدّل المزاج الدولي لصالح الدولة السودانية، في مقابل تراجعٍ ملحوظ في مصداقية الميليشيا المتمردة وحلفائها الخارجيين، وفي مقدمتهم الإمارات، التي تواجه اتهامات متزايدة بالتورط في مشروع غزو خارجي وحرب بالوكالة مدمّرة تستهدف السودان في سيادته وأمنه ووحدته الترابية وانسانه .
- الفاشر وكردفان… الوجه المأساوي للحرب
الفاشر، عاصمة شمال دارفور، تحولت إلى مسرحٍ لأبشع الفظائع في الأشهر الأخيرة. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية وثّقت نمطًا من الانتهاكات اتخذ طابعًا عرقيًا واستهدف المدنيين بالجوع وقصف مخيمات النازحين والعاملين في الإغاثة وعنف جنسي وجنساني.
أما كردفان، فقد دفعت ثمن موقعها الاستراتيجي كحلقة وصل بين غرب ووسط السودان، إذ واجهت تصعيدًا دمويًا من قبل مليشيا الدعم السريع في سعيها لفتح ممرات جديدة باتجاه الوسط وعمليا اغتصاب وحشية.
الزيارتان الأخيرتان — زيارة المسؤول الأممي للشؤون الإنسانية وزيارة وزير الخارجية المصري — حملتا رمزية عميقة:
• فالأولى أكدت أن المجتمع الدولي بدأ يعيد تقييم الرواية الميدانية بعد انكشاف حقائق الغزو الممنهج وجرائم الحرب.
• والثانية مثّلت دعمًا سياسيًا وإقليميًا مباشرًا للشرعية السودانية، ورسالة بأن القاهرة تتحرك في اتجاه عمقها الاستراتيجي بالتنسيق مع الدولة السودانية لا مع الكيانات غير الرسمية لتلازم الامن والمياه والمصير المشترك. - الموقف الأوروبي–الكندي: من التحفظ إلى الوضوح
البيان المشترك الذي صدر عن أكثر من 21 دولة أوروبية إلى جانب كندا، أرسى تحولًا نوعيًا في اللغة المستخدمة تجاه الصراع. لأول مرة تُدان مليشيا الدعم السريع بالاسم، مع تحميلها مسؤولية “جرائم ذات طابع عرقي” و”انتهاكات ضد المدنيين والعاملين في المجال الإنساني”.
هذا البيان جاء في توقيت بالغ الحساسية: بالتزامن مع اجتماعات وزراء خارجية مجموعة السبع في طوكيو، ما يعني أن التحالف الغربي الديمقراطي بات يتحدث بصوت واحد تجاه السودان الذي ظل غائبا لأكثر من عامين.
كما أنه أضعف — موضوعيًا — الدور الملتبس الذي كانت تلعبه ما تُعرف بـ”الخماسية” (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات ومصر)، والتي ظلت في الشهور الماضية تعرقل أي موقف واضح عبر لغة دبلوماسية رمادية تخدم تمدد المليشيا والابقاء على الامر الواقع. - بيان مجموعة السبع… لحظة كسر التواطؤ
بيان مجموعة السبع يمكن اعتباره نقطة تحول في السردية الدولية للحرب السودانية.
إذ لم يكتفِ بالتعبير عن القلق، بل استخدم عبارات قوية مثل “الإدانة الشديدة” و”الهجمات بدوافع عرقية”، و”العنف الجنسي ضد المدنيين والعاملين في الإغاثة”.
هذه المصطلحات ليست عشوائية في الخطاب الدبلوماسي الغربي، بل تُعبّر عن تحول رسمي في توصيف الحرب من “نزاع داخلي” إلى “كارثة إنسانية ذات مسؤولية جنائية واضحة”.
والمغزى الأهم أن البيان ربط الانتهاكات بجهة واحدة محددة، هي مليشيا قوات الدعم السريع، المتمردة في وقت دعا فيه القوات المسلحة السودانية إلى الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين — وهو توازن لغوي مقصود لكنه يميل بوضوح إلى استعادة الدولة لشرعيتها الدستورية والأخلاقية والسياسية. - نهاية زمن “المساواة الزائفة”
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، ظل جزء من الخطاب الدولي يضع الجيش السوداني والمليشيا على قدم المساواة، وكأنهما طرفان سياسيان في نزاع داخلي. لكن مشاهد الفاشر، ودمار الأبيض، وانكشاف الدعم العسكري القادم من الإمارات إلى قوات الدعم السريع عبر تشاد وليبيا وجنوب السودان ، فرضت واقعًا جديدًا لم يعد يحتمل المجاملة أو الصمت.
الحملة الدبلوماسية والإعلامية التي تقودها الخرطوم الرسمية نجحت في قلب المعادلة، وأعادت وضع الأمور في نصابها:
فما يجري ليس “صراعًا على السلطة” بل عدوان خارجي عبر وكيل محلي مسلح يهدد كيان الدولة ووحدتها الاجتماعية والجغرافية. - الإمارات ومليشيا التمرد في مواجهة “حملة عكسية”
في ظل هذا التحول، تبدو أبوظبي والمليشيا في موقع دفاعي غير مسبوق. امام تنامي حملة الوعي الخارجي،فقد فقدتا تدريجيًا مصداقية الرواية التي حاولتا ترويجها عبر المنصات الإعلامية الغربية والعربية والأفريقية، بعدما أصبحت الأدلة على تورط الدعم اللوجستي والعسكري للإمارات مكشوفة في تقارير الأمم المتحدة وصحافة كبرى مثل الغارديان ووول ستريت جورنال ونيويورك تايمز وجامعة مرموقة كجامعة ييل الأمريكية..
التحول الغربي من “التحفظ” إلى “الإدانة” يعكس إدراكًا متزايدًا بأن دعم الإمارات لهذه الحرب لم يعد مجرد انحياز سياسي، بل أصبح تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي، مع تنامي الحديث داخل الكونغرس الأمريكي عن ضرورة مراجعة العلاقة مع أبوظبي بسبب دورها المزعزع في السودان واليمن وليبيا. وتصريحات ماركو روبيو وزير الخارجية الأمريكية امس الاربعاء وأدنته المليشيا وقطعه بعدم استبعاد حظر الأسلحة عنها بل وتوصيفها جماعة ارهابية. - الدولة السودانية تكسب الأرض الدبلوماسية
في المقابل، تكسب الدولة السودانية زخمًا دبلوماسيًا متصاعدًا. فمن خلال تحركاتها المنظمة نحو المحافل الدولية والدول ، وتواصلها مع المنظمات الأممية والإقليمية، استطاعت الخرطوم أن تستعيد مشروعية روايتها الوطنية أمام الرأي العام العالمي، وأن تُظهر التزامًا واضحًا بالقانون الإنساني الدولي وقواعد الاشتباك في الميدان.
هذا التحول منح الحكومة الانتقالية المؤقتة رصيدًا سياسيًا وأخلاقيًا يمكن أن يُوظّف في المرحلة المقبلة لتعزيز حضور السودان في المفاوضات القادمة حول المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، ولتقوية موقفها في أي ترتيبات مستقبلية تخص وقف إطلاق النار أو المسار السياسي. - نحو سردية جديدة للحرب
إن ما يحدث اليوم على مستوى الخطاب الدولي يشير إلى تحوّل في ميزان السردية أكثر منه في ميزان القوة الميدانية.فالحرب التي حاولت أطراف خارجية تصويرها كصراع داخلي على السلطة، بدأت الآن تُقرأ باعتبارها عدوانًا خارجيًا مقنعًا يستهدف تفكيك الدولة السودانية.
ومع تزايد المواقف الأوروبية والإنسانية، وبروز مصر كطرفٍ داعمٍ للدولة السودانية، واهتزاز صورة الإمارات والمليشيا في المحافل الدولية، يصبح السودان — رغم جراحه — أمام فرصة لاستعادة زمام المبادرة الدبلوماسية، وإعادة تعريف الحرب باعتبارها معركة دفاع عن السيادة والهوية الوطنية. - ما بعد بيان مجموعة السبع
بيان G7 ليس مجرد تصريح عابر، بل مؤشر على تبلور إجماعٍ غربي جديد قد يُمهّد لإجراءات عملية لاحقة، تشمل:
• تشديد العقوبات على قيادات الدعم السريع والمتورطين في تمويلهم.
• تقييد حركة السلاح والتمويل عبر الحدود الليبية–التشادية.
• إعادة النظر في مسار الرباعية الذي فقد فاعليته أمام الحقائق الميدانية بالية جديدة منصفة لها مصداقية .
وفي المقابل، يمكن للدبلوماسية السودانية أن تستثمر هذا الزخم عبر تحرك منظم في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة، لطرح ملف “العدوان الخارجي عبر الوكلاء” كقضية قانونية تستوجب تحقيقًا دوليًا مستقلًا.
الخلاصة
ما بين إدانة مجموعة السبع، وبيان أوروبا وكندا، وزيارتي المسؤول الأممي والوزير المصري، والموقف الأمريكي الأخير يتضح أن السودان دخل مرحلة جديدة في علاقته بالمجتمع الدولي. فقد انكشفت الأقنعة، وسقطت محاولات التعمية التي مارستها بعض الأطراف الإقليمية، وبرزت حقيقة الحرب كغزو خارجي من خلال مليشيا محلية مأجورة.
في المقابل، استعادت الدولة السودانية مكانتها ككيان شرعي يقاتل دفاعًا عن سيادته وشعبه، بينما أخذت المواقف الدولية تميل تدريجيًا نحو خطاب أكثر إنصافًا وواقعية له ما بعده.
وهذا ما قد يُمهّد لولادة معادلة جديدة للسلام في السودان — معادلة لا تقوم على المساومات ولا على التوازنات الشكلية، بل على الاعتراف بالحقائق، وإعلاء قيمة الدولة، واحترام إرادة شعبها في استعادة أمنه ووحدته وكرامته
————-
١٥ نوفمبر ٢٠٢٥ م



